اشتغال الأطفال بمسرح الإعاقة
نتائج التجارب التكوينية
المعاق من الأطفال هو طفلٌ قدرتُه على أداء المهام العادية في الحياة اليومية أقلُّ من الطفل العادي، ويُستخدم ذلك التعبير للإشارة إلى مَنْ لديهم عجز أو نقص فسيولوﭼـي أو تشريحي مثل الأطفال ضعاف الإبصار أو السمع أو الشلل الرَّعَّاش، وتتسابق الأمم حاليًا على تهيئة حياة سعيدة للمعاقين من الأطفال وغيرهم بتوفير ما يحتاجونه من خدمات؛ أهمها - بعد الرعاية الغذائية والصحية - أن تفتح لهم منافذ ممارسة الأنشطة الفنية والثقافية، وفي مقدمتها المسرح (أبو الفنون) وأحد أهم الوسائل التعليمية والثقافية والفنية التي أسهمت فى تطوير تعليم الأطفال على مَرِّ الأزمنة. والمسرح يُوجِد بيئة مناسبة لدمج ذوي الإعاقة من الأطفال مع المجتمع؛ لذا يُعد نشاطًا مهمًا ومتاحًا للترفيه والترويح عن أنفس الأطفال المعاقين القابلة بالفطرة للوجع والألم من أقرب الطرق وبأقل الأسباب، كلما استشعروا قيود الإعاقة التي تُكبِّلهم وتجعلهم يختلفون عن أقرانهم.
المسرح بتركيبته الفريدة الساحرة وعناصره المختلفة وسيلة ثقافية وتربوية ونفسية واجتماعية لدعم أطفال الإعاقة كما هو مع غيرهم، ويوفر بممارسته ملاذًا آمنًا لهذه الفئة التي تعاني كثيرًا من الصعوبات كي تحيا بسلام وأمان وسط الآخرين من زملاء المدرسة والمشاهدين، الذين يؤثرون بصورة كبيرة في دعم الحالة النفسية والمعنوية والمزاجية لأصحاب الهِمَم من الأطفال ذوي الإعاقة، ممَّن ثبت أن نظرات الشفقة والمعاملة الخاصة تُفسد عليهم أوقاتهم التي يريدون أن يعيشوها مثل كل الناس، من دون أن يفرض عليهم أحدُنا مساعدة لم يطلبوها.
والمسرح قبل كل ذلك وسيلة للتطهير والترويح عن النفس والتسلية، وهي جميعها جوانب تدعو إلى التشبث به والاستمرار فى تقديم أنشطته الخلاقة لزرع الأمل والنجاح والصبر والإصرار؛ لأنه تتحقق بعروضه احتفالية جماعية يشارك في إنشائها جميع عناصر العرض المسرحي، الذي يتميز بأنه فن جماعي يختلف عن غيره من الفنون الأدائية والأدبية ذات الصبغة الفردية؛ ولذلك انخراط الطفل من ذوي الاحتياجات الخاصة فى عرض مسرحي حي يُقدم مباشرة للجمهور بدون أي حاجز يتطلب شجاعة وثقة، وهو أمر يُسهم فى تعزيز هذه الثقة ورفع الروح المعنوية للأطفال أصحاب الهمَم، بالإضافة إلى الكشف عن الإمكانات الحسية والوجدانية لديهم، وبذلك تكون المشاركة الفاعلة فى هذا النشاط الثقافي والفني واحدةً من أكبر الإسهامات التي تدعم الحالة الفكرية والنفسية والجسدية للأطفال ذوي الإعاقة، ويُبرز المسرح مواهب الطفل المعاق وبدلًا من النظر إليهم بشفقة ربما يكون أحدُنا أحوَج منهم لها؛ لأن المعاق كبيرًا كان أو صغيرًا في داخله قدرة على التحدي وعزم وإرادة تكفل له إنجاز الكثير من المهام، وقد يتمكن من تدبُّر كثيرٍ من أموره من دون مساعدة والاعتماد على النفس يُشعره بالفخر والزهو والتميز، كما أثبتت النتائج المبهرة التي حققها المعاقون في مجالات الإبداع والفنون المسرحية التي نتداولها في هذا المقال، والتي تحققت بمجرد أن سُمح لهم بالتواجد والمشاركة. والدراما المسرحية بمختلف أنواعها تساعد المعاق طفلًا كان أو بالغًا على استعادة ثقته بنفسه وتعميق هذه الثقة، بحيث يصبح قادرًا على كسر حاجز الخجل والانطواء الذي يفصله عن المجتمع ليمارس أنشطة الحياة بشكل عادي وطبيعي.
مما يُذكر أن ضعاف البصر والمكفوفين كانوا أسبق ذوي الاحتياجات الخاصة إلى الاتصال بالمسرح، حيث ترجع علاقة الكفيف بالمسرح إلى ما قبل الميلاد عندما كان الإغريق القدماء لا يقدمون معالجة أسطورة (أوديبوس) من دون أن يتخللها ويؤثر فى مجري أحداثها عرَّاف كفيف هو (ترزياس)، الذي قدَّره الشاعر الإغريقي الكفيف (هوميروس) في رائعته الخالدة "الإلياذة والأوديسَّا"، ذلك الكتاب القديم الذي اشتمل على أساطير الإغريق القدماء كافة.
"مسرح الإعاقة Disability Theater" هو نوع مسرحي يهتم بالإعاقة ويشمل تجارب مسرحية تتعلق بأصحاب الهِمَم فتناقش مشكلاتهم وتعرض قضاياهم، وهذه التجارب الشهيرة منها على المستوى العالمي مسرحية (العميان) تأليف "موريس ميتريلنك"، ومسرحية (الأعمى) تأليف "جبران خليل جبران" التي كُتبت باللغة الإنجليزية. وعربيًا نجد مسرحيات شهيرة تعرضت للإعاقة البصرية، مثل "وجهة نظر"، وأخرى تعرضت للإعاقة الفكرية هي "انتهى الدرس يا غبي" وكلتا المسرحيتان من تأليف "لينين الرملي". أما التجارب الأخرى والأكثر أهميةً لهذا النوع المسرحي، فهي تلك التي شارك في تنفيذها مبدعون من ذوي الإعاقات الحسية والجسدية المختلفة وإن كانت نصوصها عادية، أو أن تكون مسرحيات كُتبت خصيصًا لأجلهم وهذه هي الأهم؛ لأنها تتضمن أن يعبِّروا عن أنفسهم بأنفسهم وهذه إن لم يكن المعاقون أنفسهم قد ناضلوا لأجلها ما كان لمسرح الإعاقة وجود، حيث سارع الموهوبون من الكبار والأطفال بالمشاركة بمجرد أن فُتحت أمامهم الأبواب، وقبلوا التحدي ولنأخذ دول مجلس التعاون الخليجي مثالًا لذلك؛ إذ بمجرد اقتراح مهرجان للإعاقة شاركت كل دول المجلس بعروض أغلب أبطالها من ذوي الهمم، فشاركت دولة قطر بعرض بعنوان: (أبطال الشفلح) تأليف وإخراج "حسن إبراهيم حسن"، وشاركت الإمارات بمسرحية (دائمًا للحياة مذاق آخر) تأليف "عبدالله صالح" إخراج "محمد العامري"، أما البحرين فقد شاركت بمسرحية (قناتنا الفضائية) من تأليف "عبدالله المهدي"، و"هشام عبد الرحمن" وإخراج "نضال العطوي"، وأما المملكة العربية السعودية فشاركت بمسرحية (مثلي مثلك) تأليف "محمد العثيم" وإخراج "رجاء بن غازي العتيبي"، وشاركت سلطنة عُمَان في أول مهرجان عربي لمسرح الإعاقة بعرض (الزاوية)، وهي مسرحية من تأليف "صالح الفهدي" وإخراج "ناصر الركشي"، وشاركت الكويت أيضًا في المهرجان بمسرحية "كلمة السر" من تأليف "مشعل الموسى" وإخراج "يحيى عبدالرضا"، وأخيرًا شاركت اليمن بمسرحية "أبتاه ما ذنبي" من تأليف "عادل الجرباني" وإخراج "علي الخياط". أما العروض التي شاركت في الدورة الثانية والتي استضافتها الشارقة 2011م، فقد قدمت الإمارات عرضًا بعنوان: (العميان) تأليف "ناجي الحاي" وإخراج "أحمد الأنصاري"، أما البحرين فقد شاركت بعرض (سلام جابر) تأليف وإخراج "عبدالرحمن حسن بوجيري"، وشاركت المملكة العربية السعودية في هذه الدورة بعرض بعنوان: (الحجّ) تأليف "صالح اليماني" وإخراج "محمد صالح يحيوي"، وعرضت سلطنة عُمان مسرحية (رجل بلا مناعة) تأليف "عبدالكريم بن على عبدالجواد" وإخراج "مبارك بن جمعة المعمري"، وشاركت قطر بمسرحية (صنَّاع الأمل) تأليف "سعود الشمري" إخراج "ناصر عبدالرضا"، وشاركت الكويت بمسرحية (أبي رجل كهل عنيد) تأليف "مشعل عبدالحميد الموسى" وإخراج "يحيى عبدالرضا حسن"، وقدمت اليمن مسرحية (أحوال حارتنا) تأليف "عبدالواسع محمد مجلي" وإخراج "محمد عبدالله حسين الرخم"، وقد شاركت مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية في هذه الدورة المهرجانية بمسرحية (صور تذكارية) تأليف وإخراج "محمد بكر طه"، وهذه المدينة التي تحتضن الأطفال من ذوي الإعاقة تقدم أغلب خدماتها الإنسانية للأطفال في صيغة فنية لإسعاد روَّادها.
تقدم الوضع في مصر بقوة الدفع الذاتي رغم قسوة الظروف الاقتصادية لوجود ما يقرب من خمسة عشر مليون معاق؛ الأمر الذي أجبر وزارة التربية والتعليم المصرية منذ عقود أن تقوم بدورها نحو رعاية المعاقين من أطفال المدارس لتربيتهم وتعليمهم، ففتحت "مدارس التربية الخاصة" في أكتوبر 1992م، وهذه المدارس تتميز إلى ثلاثة أقسام؛ هي: مدارس التربية الفكرية للأطفال ذوي الاحتياجات الذهنية والفكرية، ومدارس الأمل للأطفال من الصُّمّ والبُكْم وأخيرًا مدارس النور لضعاف البصر والمكفوفين التي يلتحق بها أبناؤنا ذوو الإعاقة البصرية؛ إذ أدت هذه الطاقة البشرية إلى توافر أعداد كبيرة من الموهوبين ذوي الهمم من فرسان التحدي، الذين كافحوا حتى أوجدوا لأنفسهم موقعًا ملموسًا على خارطة العمل المسرحي المصري للأطفال، وحصد بعضهم كما رأينا نتيجة العمل المُضني والتدريب المتواصل والكفاح المستمر جائزةَ المهرجان القومي للمسرح المصري في دورته عام 2019م، في منافسةٍ شريفةٍ لم يُفرَّق فيها المُحكّم بين المعاق وأقرانه من المشاركين بالمهرجان، وقد أدت كل هذه الممارسات إلى ظهور عروض تنتمي إلى "مسرح الإعاقة" ذلك النوع المسرحي الجديد، ومن هذه التجارب سوف نتوقف عند المسرحية التي فتحت ملفَّات الإعاقة:
"بكُم أكتمل":
مسرحية للأطفال من تأليف (هاني قدري) وإخراج (عبد المقصود غنيم) ومن إنتاج الإدارة العامة لثقافة الطفل بالهيئة العامة لقصور الثقافة للعام المسرحي 2019م، عُرضت في فضاء بديع هو مسرح "دار الأوبرا" بمدينة دمنهور عاصمة محافظة البحيرة المصرية، وناقشت وللمرة الأولى على المسرح واحدةً من أهم مشكلات النابهين من ذوي الإعاقة، عندما يتفوق أحدهم على أقرانه في لعبة ذكاء هي الشِّطْرَنج وتقف القوانين المحلية والدولية في سبيل تقدمه فيُحال إلى المشاركة في مسابقة موازية خاصة بالمعاقين، وهو ما أزعج بطل روايتنا الطفل الكفيف وافر الإرادة (عبد الله محمد نصر) الذي تفوَّق في لعبة الشطرنج حتى أصبح الأول على الجمهورية وأصبح من حقه - وفقًا للقانون الإنساني - أن يمثل بلاده على مستوي العالم، إلا أن القانون الوضعي الذي يمثله بالعرض (سعد عبد الحليم) بتمثيله لدور "فخري" رئيس رابطة الشطرنج يرفض ذلك، موضحًا أن القانون الوضعي للبلد وقانون الاتحاد الدولي للشطرنج يقرُّ بأن يشارك البطل في مسابقة المعاقين، وتلك هي مشكلة العرض: أن يتساوي كل الناس أمام الإبداع والأحق بالنجاح مَن يملك القدرة على تحقيق الفوز - من دون تعاطف طبعًا - ذلك في الأنشطة التي لا تحتاج إلى معاملة خاصة. وفتح هذا الملف يقودنا إلى تأمل ملفات كثيرة عن أبواب عديدة ظلت مغلقة في أوجه المعاقين منها أكاديمية الفنون، التي حتى هذه اللحظة لم يتخرج فيها معاق واحد في المجال التمثيلي كما نعلم، وإن كانت السنوات القادمة سنشاهد فيها تخريج أول تمثيليين من ذوي الاحتياجات الخاصة، وقد تأخرنا في ذلك - كما هو واضح - بينما الغرب المتقدم يفتح أمام المعاقين أبواب الدخول إلى المجالات كافةً من دون تعصب أو تمييز، كأننا حرمنا بلادنا لوقت طويل من عقول نيرة مثل هذه كان لبعضها فضل على الإنسانية، مثل "طه حسين" الذي جعل التعليم في مصر حقًا للجميع، وفي أمريكا الرئيس الوحيد الذي أُعطي حق الحكم مدى الحياة بالإجماع هو (روزﭭـلت) العاجز حركيًا؛ لأنه قاد البلاد بعقله النيِّر حكمَ واحدةٍ من أكبر دول العالم، وقد تكرر ذلك مجددًا بانتخاب "لينين مورينو" صاحب الإعاقة الحركية رئيسًا لدولة (الإكوادور) في أبريل عام 2017م، وبينما يُهمَّش الكفيف على نحو ما نرى في بلادنا نجد المغني والمؤلف والملحن الإيطالي الكفيف الشهير (أندريا بوتشيلي) يُصنَّف بأنه صاحب أجمل صوت بالعالم.. حدث ذلك لأنه أُفسح له المجال لكي يؤدي دوره في إسعاد المجتمع، وغيرهم الكثير كلما نقَّبنا وجدنا نتائج مبهرة.
أسفرت التجارب والمحاولات المتفرقة والمتوالية في مسرح الإعاقة عن انتباه القيادات إلى هذا الوافد الجديد في عالم الفنون، فأفسحوا لهم المجال وفتحوا أمامهم - خصوصًا في مسرح الطفل - سُبل التمكين والمشاركة؛ الأمر الذي أدى عام 2019م إلى حصول فتاة كفيفة وشاب كفيف على جوائز التمثيل الأولى في مسار مسرح الطفل بالمهرجان القومي للمسرح المصري؛ تأكيدًا على حقيقة أنه يوجد من بينهم مواهب تمثيلية غير عادية تستحق أن نحجز لها موقعًا على شبكة الإبداع المسرحي الإنساني. حيث خاضت "فاطمة مجدي" معارك كبيرة لكي تجد لنفسها مقعدًا على منصة النجاح، وقد كُلِّلت رحلة كفاحها هي وزميلها في نفس العرض "هادي جلال" بإنجاز كبير حققه هذا الثنائي الرائع من فرسان التحدي في المجال المسرحي، حتى اقتنصا جائزة الدورة عام 2019م، في منافسةٍ حُرَّة تنتصر عمليًا لفكرة الدمج الذي يعني عدم التفرقة بين الناس على أساس بدني أو حسي، والذي يهدف إلى دمج وانخراط أصحاب الإعاقة مع المجتمع في الأندية والمدارس.
وبعد هذا الإنجاز أصبح من غير المعقول ألا نسعى عربيًا كي نوفر المناخ الملائم لرعاية ونمو أصحاب المواهب من الأطفال ذوي الإعاقة فرسان الإرادة؛ لكي يتمتعوا بوجود بيئة مناسبة لممارسة ما يشتهون من أنشطة ورياضات وفنون إبداعية بكل حرية وأريحية، وذلك بتوفير الكفاءات التي تستطيع تدريبهم وتعليمهم الذي يحتاج إلى معرفة بقدرتهم واحتياجتهم النفسية والمادية، وعلى سبيل المثال على المتعامل أن يعلم أنه بينما الصُّمُّ والبُكْمُ يجيدون تعلُّم الحركة عن طريق النظر، نجد المكفوفين لا يعرفون شيئًا عن أبسط تعبير حركي يكتسبه رضيع عن طريق النظر؛ لذلك إذا أراد المخرج أن يحرك ذوي الإعاقة البصرية فعليه أن يعرف مبدئيًا أن أمامه طريقًا طويلًا وَجَهْدًا شاقًا قطعه المخرج "محمد فؤاد" في تجربة إبداع وصبر استمرت لسنوات لكي يصل إلى نتيجة مبهجة؛ أن يفوز (هادي جلال) وزميلته "فاطمة مجدي" بجوائز التمثيل لمسرح الطفل بالمهرجان القومي للمسرح المصري وهو أحد أهم المهرجانات المسرحية العربية، وتهافتت وسائل الإعلام المصرية على مقابلتهما لتوثيق هذا الحدَث المميَّز، والذي جاء ثمرة تدريب جيد ومستمر على التمثيل المسرحي والمشاركة الإيجابية والشغل الجاد في عددٍ من العروض على مدى أربع سنوات، أدت إلى وصول هذا الفريق إلى هذه المحطة العبقرية في هذا المضمار؛ حيث اندمج ذوو الاحتياجات مع غيرهم وتبادل الجميع الأدوار لتحقيق التكيُّف الاجتماعي ودعم العلاقات الإنسانية، وإكساب المشاركين كافةً القيَم والفضائل المرغوبة والمهارات الحياتية لمساعدة المعاقين على أن يَحْيَوا حياة طبيعية بالتكيُّف مع أفراد المجتمع.
"رادوبي أو سندريلا المصرية":
هي مسرحية الأطفال التي أكَّدت نجاح واكتمال تجربة مسرح الإعاقة في مصر. وهي من إنتاج الإدارة العامة للطفل بالهيئة العامة لقصور الثقافة، إحدى نوافذ ممارسة الفنون بوزارة الثقافة المصرية، والمسرحية من إخراج (محمد فؤاد) وتأليف (أحمد زحام) وهو اللقاء الثالث الذي جمع بين هذا الثنائي كمؤلف ومخرج؛ حيث سبق لهما أن التقيا في مسرحية "السيرك" ثم مسرحية سابقة من إبداع ذوي الهمم هي (كمان زغلول)، وكان بطلها هو نفسه (هادي جلال) الذي لعب دور شاب يحب الموسيقا ويتمنى أن ينجح فيها كما نجح الموسيقار الشهير (عمَّار الشريعي)، الذي يزور الشاب في الخيال ليشرح له كيف كوَّن شخصيته الإبداعية متحديًا قيود الإعاقة؛ ليمنحه بزيارته من الطاقة والأمل ما يُمكِّنه من تحقيق طموحه وبلوغ أمله ومُنَاه. وقد استعان المخرج في تنفيذه لهذا العرض بفريقٍ من ضعاف البصر وفرسان التحدِّي ممن اعتمد عليهم مجددًا في إنجاز تجربته الحالية (سندريلَّا المصرية) في العام المسرحي 2019م، والتي استعان في إنجازها للمرة الأولى - من دون تزيُّدٍ أو سخرية - (بالأقزام) وهم فئة مُهمَّشة أخرى لا يعرف أصحابها إن كانوا ينتمون إلى جدول الإعاقة أم لا؛ لأنهم في ظاهر الوضع الجسدي والحسي ليس بهم إعاقة لكن التقزُّم يُعيقهم عن ممارسة الحياة الطبيعية؛ ولذلك نجد أنهم أيضًا بحاجة إلى مَن يُعينهم على حياةٍ تخلو من التنمُّر بالنظر أو باللسان نتيجة قلَّة الثقافة وانعدام الوعي.
كل هذه الإنجازات الإنسانية المخلصة من دون ابتذال رَفعتْ قدر هذه التجربة وعززت من قيمة هذا العرض الذي أحسن الاختيار، متبنيًا حقيقةَ أن من حق أبطاله أن يمارسوا الحياة المسرحية وأن يتحركوا في دنيا الدراما المسرحية وسط جمع من المبدعين بطريقة عادية وموضوعية، حيث البطل المحرك لكل الأحداث شاب جميل وسيم لا يمكن أن نتصور أنه لا يرى وأنه كفيف؛ لأنه يتمادى في إخفاء نقطة ضعفه كما يفعل الجميع إذ لا أحد يحب أن يعرف الناس نقاط ضعفه؛ ولذلك ينزعج أصحاب الإعاقة من الخدمات المجَّانية التي يحاول بعضنا أن يقدمها لهم من باب الشفقة. علينا أن نمنحهم فرصة طلب المساعدة بأنفسهم إن هم احتاجوا إليها مثل الجميع. وقد احتال "فؤاد" المخرج حيلةً عبقريةً في بدء العرض كي ينشأ التعارف الواجب بين المشاهد والمشهد، فقد جعل بطله الكفيف يتحسَّس نَسْرًا بارزًا في صدر المنظر المسرحي، هذا النسر هو رمز (حورس) ثمرة الإسطورة المصرية الشهيرة التي لا يعرفها للأسف أغلب شباب مصر، تلك الأسطورة التي تؤكد أن المسرح نشأ في مصر قبل أي دولة بالعالم.. وهكذا عندما يتحمس البطل الذي يقوم في هذا العرض بدور الراوي الذي لا يكتفي بسرد الأحداث بأسلوبه الجيد ذي الإيقاع السريع، ولكنه بالإضافة إلى ذلك يشارك في الأحداث الدرامية والمسرحية التي نحكي عنها في سندريلَّا المصرية، وهي فتاة مصرية يُفاجئها أبوها ذات يوم بعد رحيل أمها بمفاجأة غير الحلوى والعروسة كما ترقبت؛ إذ جاءها بزوجةِ أبٍ سيدة جديدة جاءت لتحلَّ محلَّ أمها، ولم تأتِ منفردةً وإنما جاءت ومعها ابنتان وطلبت منها ألا تنطق كلمة أمي لأنها أمٌّ لفتاتين جميلتين وهي كذلك أم متصابية لا تريد أن تكبُر عندما تناديها بأمي، فما كان من سندريلا التي جعل المخرج لها وجهين بالعرض: وجه تمثله فتاة عادية، والوجه الآخر هي فتاة جميلة وكفيفة هي صاحبة الجائزة (فاطمة مجدي)؛ ليؤكد رؤيتَه بأن ما يفعله المعاقون يفعله غيرهم وأن كليهما قد يقع تحت نفس الظروف ويمر بنفس المشكلات، وأن هذه الخلفية إن كانت تدل على شيء فإنها تدل على حقيقة أن الكل سواء أمام الحياة.. الكل قد يفقد الأم أو الأب ويضطر إلى الحياة مع زوجة الأب، وما دمنا سواء أمام الطبيعة لا بد أن تتساوى فرصنا في الحصول على كل الأشياء. وهذه الصرخة العالية من أصحاب الإعاقة تكفُر في الحقيقة بالقوانين العقيمة التي تنظم حياتهم، فتجعلهم في عِدَاد الـ 5% للوظائف والتعيينات التي لا تتحقق على أرض الواقع، وإنما هم في هذه المسرحية يطالبون بحقِّهم بالعمل والعلم وكل الممارسات التي يفضلونها أو يختارونها من دون تميز.