عندما قال أحمد شوقي عن محمد عثمان جلال
"لا يقل عن لافونتين رقةً وسلامةً ومتانةً وفخامةً"
وفي ملخص خطبته (باللغة الفرنسية) في إحدى جلسات قسم اللغات الإسلامية للمؤتمر الشرقي الدولي المنعقد بجنيفا (من مدن سويسرا) في شهر سبتمبر سنة 1894 ذكر شوقي جهود محمد عثمان جلال في كتاب "العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ" وقال "إنه لا يقل عن إنشاء لافونتين رقةً وسلامةً ومتانةً وفخامةً، وإنا لنفتخر به ونقدمه دليلاً كافيًا على أن منا اليوم من يحكي (يحاكي) الشهير لا فونتين، وهو كما تعلمون من آباء الفكرة الأدبية الفرنساوية التي ينتهي إليها في العالم الأوروبي كل جلال وجمال".
إن ما ذكره شوقي في خطبته في المؤتمر يؤكد – بما لا يدع مجالاً للشك - أنه كان مطلعًا على إنجازات محمد عثمان جلال، ويتضح هذا بجلاء في قوله بعد ذلك: "على أن عثمان بك ما كان ليرتفع محله هذا العظيم، لو لم يصب بالضاد لغةً تعدل لغة لافونتين غنىً ولينًا وسعةً واقتدارًا، وهو أيضا أدل دليل على أن هذه اللغة التي يزعم جمهور الأوروبيين أن آدابها قاصرة على مدحةِ تزلفٍ لأمير أو كلمةٍ يحيى بها وزير، صالحة لأن تنظم بها القصائد الطنانات وتعمل الرسائل السيارات في الإشادة بذكر عظماء الأبطال والتغني بكبار الوقائع ومشهورات الأيام".
" شاعر ومترجم وأديب من واضعي أساس
القصة الحديثة والرواية المسرحية"
رسالة شوقي
ويبدو أنه من الرسائل التي كان يريد شوقي توجهيها لحضور هذا المؤتمر والمشاركين فيه أن اللغة العربية قادرة على التعبير عن العصر الحديث، وأنها لم تتخلف قط عن مواكبة الجديد. ثم يقدم شوقي قصيدته "كبار الحوادث في وادي النيل" (من يوم قام إلى هذه الأيام)، مُسهبًا عند ذكر الفراعنة والكلام عن الديانات التي اختلفت على البلاد المصرية.
وهي القصيدة الطويلة التي جاء في مطلعها:
همَّت الفُلكُ واحتواها الماءُ ** وحَداها بمن تُقِلُّ الرجاءُ
ضرب البحرُ ذو العُباب حوالَيـ ** ـها سماءً قد أكبرَتها السماءُ
ورأى المارقون من شرَكِ الأر ** ضِ شِباكًا تمدُّها الدأْماءُ
وجبالًا مَوائجًا في جبالٍ ** تتدجَّى كأنها الظَّلماءُ
وعودة إلى د. أنس داود الذي يبدو أنه لم يقرأ خطبة شوقي في هذا المؤتمر، لنجده يقول: "يبدو أن ترجمة محمد عثمان جلال لآثار لافونتين بالفصحى إلى جانب شيء من العامية المصرية، أو المزج بين هذا وذاك، جعل شوقي يُعرض عن قراءتها، أو يتخطاها، ولكنه (أي شوقي) عندما التقى بشعر لافونتين مباشرةً فإن قدرتين تلتقيان على القدر نفسه من الكفاءة (المثال الأكمل: لافونتين، والمستلهم الأعظم: شوقي).
ويضيف داود قائلاً: "ليس دفاعاً عن شوقي أن لا يشير بكلمة إلى عمل محمد عثمان جلال في "العيون اليواقظ" فمازال من عيوبنا المستشرية في حياتنا الأدبية محاولة إنكار جهود ذوي الفضل، وتناسي رواد الطرق الصعبة".
هذه العبارة الأخيرة على لسان د. أنس داود تؤكد مرة أخرى أنه لم يطلع إطلاقاً على ما ورد في خطبة شوقي في هذا المؤتمر، وأرجِّح أن الخطبة - أو ملخصها - لم تكن قد تُرجمت إلى العربية بعد. وقد أورد ترجمتها (أو ترجمة ملخصها) الباحث عرفان شهيد في كتابه "العودة إلى شوقي أو بعد خمسين عاماً" الذي صدر في بيروت عام 1986 وأهداه إلى "جلالة قابوس بن سعيد سلطان عُمان المعظّم". وعرفان شهيد أستاذ كرسي سلطنة عُمان للأدب العربي والإسلامي في جامعة جورجتاون في العاصمة الأمريكية واشنطن، وأكثر مؤلفاته منشورة باللغة الإنجليزية.
وفي رأي أنس داود أن كتاب "العيون اليواقظ" ليس ترجمة خالصة دقيقة لحكايات لافونتين، ولهذا صح ما قاله عنه أستاذنا د. محمد غنيمي هلال: "ولكن ترجمته حرة لا تتقيد بالأصل، يمصِّر فيها أماكن، أو يجعلها تجري في بلد عربي، ويضفي على خصائصها طابعًا دينيًّا يقتبسه من القرآن أو الحديث، وفيها من الحكايات على صورة زجل".
وفي محاولة للدفاع عن شوقي - بعد ما وجّه إليه الاتهامات السابقة – قال د. أنس داود: "ليس من الضروري أن يقرأ كل شاعر عربي في بواكير حياته جميع التراث العربي، ذلك شيء غير معقول، ومن الممكن أن يكون شوقي ـ حتى ذلك الحين ـ لم يطلع على "كليلة ودمنة" العربي، أو اطلع اطلاعًا عابرًا لم يُثر خياله الشعري، ولم يوقظ حاسته الملهمة، أما حين اطلع على حكايات لافونتين، وقد منحتها العقلية الغربية كمالاً في التشكيل الفني، وجعلت من كل حكاية لوحة آسرة زاخرة بعوامل التشويق، فقد أحس بالتأثير النفسي العميق لتلك الحكايات في صبغها في الشعر الفرنسي، وأحسّ بها أيضاً فيما لو تجلَّتْ في شعر عربي من إبداع شاعر صَنَّاع يملك الموهبة الرفيعة، ووسائل الأداء الفني البديع".
وكل آراء أنس داود في هذا الاتجاه تنطلق من أن شوقي لم يقرأ أو لم يهتم بكتابات محمد عثمان جلال، وهكذا يظلم شوقي من دون وجه حق.
"كان من ظرفاء عصره
وهو صاحب قصيدة "الغراب والثعلب"
شيء عن عثمان
يُذكر أن محمد عثمان جلال شاعر ومترجم وأديب مصري من واضعي أساس القصة الحديثة والرواية المسرحية. وكان من ظرفاء عصره. ولد ببلدة بمحافظة بني سويف بمصر عام 1828، وتوفي بالقاهرة عام 1889.
من أهم أعماله: عطار الملوك. العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ، عن (خرافات لافونتين) الفرنسية، وهي من أشهر ترجماته. الأربع روايات في نخب التيارات. الروايات المفيدة في علم التراجيدة (أي التراجيديا). مسرحية الشيخ متلوف. رواية الأماني والمنة في حديث قبول وورود جنة، وهي ترجمة لرواية "بول وفيرجيني". رواية المخدمين، أرجوزة في تاريخ مصر (ديوان شعر). ديوان الرجل والمُلح.
يقول محمد عثمان جلال في قصيدة "الغراب والثعلب":
كان الغرابُ حطَّ فوق شجرةْ *** وجبنةُ في فمه، مدورةْ
فشمَّها الثعلبُ من بعيدِ *** لما رآها .. كهلال العيدِ
وقال: يا غرابُ، يا ابن قيصرِ *** وجهُك هذا، أم ضياءُ القمرِ؟
كنت أظنُّ أن فيك ريشا *** هذا حريرٌ قد أرى منقوشا
وحُرْمَةُ الودِّ الذي بيننا *** محبةٌ فيكَ .. أتيتُ ها هنا
وها أنا أرجوك أن تغنِّي *** عسى بك الهمُّ يزولُ عنِّي
لله ما أحلاك حيث تنجلي *** صوتُك أحلى من صياح البلبلِ
فانخدع الغرابُ من كلامهِ *** وجاء للخصم على مرامهِ
وقال "ياليل" بدون اللقيمةْ *** فسقطتْ من فمه .. الغنيمةْ
قبضها الثعلبُ قبصَ الروحِ *** وقال: في بطني حلالاً روحي
ثم رنا بعينه، من فوقهِ *** رأى الغرابَ طارشًا من حلقهِ
قال له: يا سيد الغربانِ *** إني برىءٌ ،(ولا أنت) الجاني
خذ بدل الجبنة مني مثلا *** واحفظه عني سنداً متصلا
مَنْ مَلَقَ الناسَ عليهم عاشا *** وأكل الجبنةَ، والجلاشا
فاعتبر الغرابُ من ذي النوبة *** وتابَ، ولكن لات حين توبة.