"التسامح فطرة في الإنسان.. انظر إلى الطفل
الصغير يغضب ويتسامح في الوقت ذاته"
والتسامح مفهوم أخلاقي اجتماعي ديني ينطوي على الحب والتقبل والرضا والمرونة والحرية والكرامة والتواصل، كما أنه فطري في الإنسان، والدليل على ذلك أن الطفل الصغير يغضب ويتسامح في الوقت ذاته، كذلك فإن التسامح يكتسبه الإنسان من خلال مجاهدة النفس، والامتثال للتعاليم السماوية، وهو أيضاً مهارة وقيمة أخلاقية وفكرية، وأساسها يقوم على معاملة الآخرين بوصفهم بشراً واحترام إنسانيتهم ومشاعرهم ومعتقداتهم وطريقة حياتهم، بغضّ النظر عن ألوانهم أو أجناسهم أو انتماءاتهم الدينية والعرقية. والتسامح - سواء سمي مهارة أو قيمة - ينمّي الشخصية ويحميها من الاضطراب والكراهية والتعصب والعدوان.
عالمنا العربي في أشد الحاجة إلى التسامح أكثر من أي وقت مضى. فالتعصب والانغلاق من شأنهما تغذية نار الكراهية بين الأمم والشعوب، والانزلاق إلى مزيد من الحروب والنزاعات التي تؤدي إلى التدمير العبثي لكل ما هو جميل في هذا العالم. ونحن جميعاً مسئولون عن كل ما يحدث إذا لم نبذل أقصى الجهود لمنع هذا التدمير العبثي.
إن تربية الأطفال منذ الصغر على التسامح أمر ضروري، فالتربية عملية تستمر طوال العمر، وقد أصبحت العناية بالأطفال من العلامات البارزة لرقيّ الشعوب والأمم ومظهراً من مظاهر تقدمها وتطورها، وإذا لم نعدّهم إعداداً سليماً في طفولتهم فلن يستطيعوا المشاركة بفاعلية في تنمية بلادهم اجتماعياً واقتصادياً، ومن هنا يأتي المطلب بتربية الأطفال على ثقافة التسامح ونبذ العنف، ورفض التطرف، ومواجهة التعصب، في مختلف الميادين والاتجاهات، وهذه التربية يجب أن تنطلق من قيم الديمقراطية، وأن تعتمدها منهجاً وطريقة وغاية وممارسة من أجل مواجهة التحديات الكبرى والقضاء على العنف والتسلط والإرهاب.
مؤسسات وأدوار
هناك العديد من المؤسسات التي تسهم في تنمية ثقافة التسامح لدى الأطفال، منها الأسرة، المدرسة، المسجد، وسائل الإعلام، وتعتبر هذه المؤسسات أدوات بارزة في حياة كل فرد داخل المجتمع، والتعليم يعد ركيزة بارزة وبالغة في الأهمية في بناء شخصية الفرد.
ولا يمكن أن تتحقق ثقافة التسامح من دون اكتسابها عبر التربية والتنشئة داخل الأسرة، ومن خلال التكامل بين مسؤوليات الأسرة مع المسؤوليات التربوية للمؤسسات التربوية الأخرى في المجتمع، فإننا نستطيع بذلك أن نضع الخطوات الصحيحة لبناء وطن متقدم وزاهر يعيش فيه المواطن سعيداً.
وعلى ضوء ذلك من الضروري إكساب الأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة ثقافة التسامح، وذلك لأن هذه المرحلة هي أهم المراحل لغرس القيم والسمات المرغوب فيها، كما أن تنمية قيمة التسامح أمر ضروري، ويأخذ أهمية خاصة لدى الأطفال الصغار، وذلك نظراً إلى أهميته في سواء الشخصية والتواصل الاجتماعي والبعد عن الانعزالية.
التسامح هو الدرع الواقية لحماية المجتمع من العنف والتطرف وصهر أفراد المجتمع في بوتقة واحدة، لذا يجب تنمية هذه القيمة في نفوس أطفالنا منذ الطفولة المبكرة؛ من أجل إعداد المواطن الصالح المتمسك بقيم وعادات وتقاليد مجتمعه، وكذلك من أجل تحقيق التلاحم الاجتماعي والعمل على ما من شأنه أن يحقق رفعة الوطن وتقدمه.
التسامح.. ما هو؟
يرى بعض المفكرين أن اللغة العربية لا تنطوي على مفهوم واضح للتسامح بالمعنى المعاصر للكلمة. جاء في لسان العرب: سمح، السماح، السماحة المسامحة، والتسميح وتعنى لغة الجود، وأسمح إذ جاء وأعطى بكرم وسخاء، وأسمح وتسامح وافقني على المطلوب، والمسامحة هي المساهلة.
وجاء في مختار الصحاح سمح – السماح والسماحة الجود (سمَح) به يسمح بالفتح فيهما سماحاً وسماحة، أي جاد. وسمح له أي أعطاه. وسمح من باب ظرف صار سمحاً بسكون الميم، وقوم سمحاء بوزن فقهاء، وامرأة سمحة ونسوة سِمَاح. والمسامحة المساهلة، وتسامحوا تساهلوا، وفي "المنجد" سمح سماحاً وسموحاً وسماحةً وسموحة وسمحاً، أي صار من أهل الجود والسماحة، وفي معجم مقاييس اللغة جاءت سمح: السين والميم والحاء أصل يدل على سلاسة وسهولة.
ويعرّف قاموس "أنسيكلوبيديا" الموسوعي التسامح بأنه السماح بحرية العقل أو الحكم على الآخرين. وهذا التعريف يكشف عن إحدى السمات المهمة للتسامح ونعني بها الحرية.
والتسامح هو الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير، وللصفات الإنسانية لدينا، ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد، وأنه الوئام في سياق الاختلاف، وهو واجب أخلاقي وقانوني، والتسامح هو الفضيلة التي تُيسِّر قيام السلام محل ثقافة الحرب.
ويمكن تعريف التسامح بأنه السلوك المعبر عن امتثال الإنسان المسلم لمنظومة القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية والاجتماعية والعلمية والتعليمية، كسلامة الصدر والصفح وأدب الحديث وقبول الآخر.. وغيرهما من القيم التي تشيع المحبة والأمن والسلم بين الأفراد في المجتمع.
"إذا صخب أمامك طفل وضج أو رفع صوته
فاطلب منه أن يهدأ واضبط نفسك واحتفظ بهدوئك"
أهداف ثقافة التسامح
-
تعليم الأطفال التصرف بلطف، والمسارعة إلى كسب رضا الناس بادئين برضا الله تعالى.
تعليم الأطفال بأن يشعروا بما يحتاج إليه الآخرون، وأن السعادة في إسعاد الآخرين.
الإسهام في تشكيل شخصية الطفل، ودعم قدرة الأفراد على التعامل مع الآخرين.
العمل على تعليم الأطفال أن التعامل بالحسنى أمر عملي وواقعي وطريق للتسامح، فإذا أصخب أمامك طفل وضج أو رفع صوته فاطلب منه أن يهدأ واضبط نفسك واحتفظ بهدوئك.
إذا أردنا أن نجعل أطفالنا قادرين على قبول الآخر واحترام الناس فعلينا أن نبدأ نحن فنعاملهم باحترام ونكلمهم باحترام، ونشعرهم بأنهم محترمون.
دعم قيم الحرية والإيثار والولاء والانتماء وتعزيزها لدى جميع الأفراد.
دور الأسرة
تُعد الأسرة الوسط الأول الذي يمارس فيه الطفل علاقته الإنسانية من خلال التفاعل الدائم بالوالدين، وهي العنصر الأول في بناء المجتمع، وعليها الدور الأكبر في توجيه سلوك الأبناء، والاهتمام بهم وتلمس حاجاتهم، والوقوف بقوة بوجه من يحاول التأثير فيهم بسلوك شاذ أو فكر منحرف؛ لما في ذلك من مخاطر كبيرة تقود إلى زعزعة أمن المجتمع ككل واستقراره، فالأسرة هي المؤسسة التربوية الأولى، وهي مصدر كل تربية صحيحة يتأثر بها الطفل. وتُعرّف الأسرة بأنها الجماعة المكونة من الزوج والزوجة وأولادهما غير المتزوجين الذين يقيمون معاً في مسكن واحد، ويمكن تعريفها أيضاً بأنها جماعة اجتماعية بيولوجية نظامية تتكون من رجل وامرأة يقوم بينهما رابطة زوجية مقررة.
وإذا كانت الأسرة هي النواة الأولى لعملية التنشئة الاجتماعية والتي تتولى تنشئة أطفالها أو أفرادها في مراحلهم العمرية المختلفة، فإن نمط العلاقات الإنسانية القائم داخلها هو الذي يحدد طبيعة القيم التي سيتشبع بها الفرد، من تعلم للتسلط والاتكالية والعجز والاعتماد على الآخرين، وسهولة الانقياد لضعف الشخصية، أو على طرف النقيض من ذلك من تعلم لقيم النقاش والحوار والتسامح وقبول الآخر، وقوة الشخصية والقدرة على الابتكار والإبداع، مما يجعل التساؤل مشروعاً حول الدور الذي لعبته الأسرة في الوطن العربي في تقبل الآخر وعدم التسلط على أفكاره وقبول قيم التسامح.
وتشتمل الأسرة، بحكم بنيتها ووظائفها على نسق من العلاقات التي تقوم بين أفرادها. وتعد العلاقة القائمة بين الأبوين هي المحور الأساس لنسق العلاقات التي تقوم بين أفراد الأسرة، والمنطلق الأساس لعملية التنشئة الاجتماعية. حيث تعكس العلاقة الأبوية ما يسمى "الجو العاطفي" للأسرة والذي يؤثر تأثيراً كبيراً في عملية نمو الأطفال نفسياً ومعرفياً. وتمثل العلاقة الأبوية نمطاً سلوكياً لأفراد الأسرة. وهذا يعني أن الطفل يكتسب أنماطه السلوكية من خلال تمثل هذه العلاقات السلوكية القائمة بين أبويه.
أما التسامح فيتمثل في المرونة، والرقة، والحرية، واحترام الآخر، والتكافؤ والعدل والمساواة. ويطلق على الجانب الأول من العلاقات علاقات التسلط والقوة، وعلى الجانب الآخر العلاقات الديمقراطية. ويكاد يجمع المربون اليوم على أن أسلوب الشدة لا يتوافق مع متطلبات النمو النفسي والانفعالي عند الأطفال، بل يؤدي في جملة ما يؤديه، إلى تكوين مركبات وعقد النقص، والضعف، والإحساس بالقصور، وإلى تنمية الروح الاستلابية الانهزامية عند الطفل. وعندما تلجأ الأسرة إلى أسلوب الشدة فإنها تمارس دوراً سلبياً يتناقض مع مبدأ خفض التوتر النفسي الدائم عند الأطفال. ويؤدي أسلوب الشدة، في جملة ما يؤديه أيضاً إلى تحقيق مبدأ الاغتراب النفسي الانفعالي عند الأطفال.
إن العلاقات الديمقراطية المتكاملة التي توجد داخل الأسرة تؤدي إلى تحقيق التوازن التربوي والتكامل النفسي في شخص الأطفال: كالجرأة، والثقة بالنفس، والميل إلى المبادرة، والروح النقدية، والإحساس بالمسؤولية، والقدرة على التكيف الاجتماعي، كما حث الإسلام على العلاقة المتبادلة بين الأب والأبناء كما قال علي بن أبي طالب كرم الله وجه "علموا أبناءكم غير ما تعلمتم فقد خلقوا لزمان غير زمانكم".
كيف نجعله ثقافة؟
تلعب الأسرة دوراً أساساً ومركزياً في نشر ثقافة التسامح وذلك من خلال ما يأتي:
-
التربية الفكرية الصالحة للأبناء، عبر ترسيخ مبادئ الوسطية والاعتدال في معتقداتهم وأفعالهم وأقوالهم، وتنمية روح التسامح لديهم في مراحل نموهم المختلفة.
تحصين الأبناء ضد دعاة الانحراف الفكري، وفي مواجهة ما يُبث من انحرافات فكرية وعقدية عبر وسائل الإعلام، ومراقبتهم للتعرف إلى توجهاتهم الفكرية من أجل تهذيبها في مرحلة مبكرة.
تثقيف الأبناء أمنياً ليدركوا أهمية استتباب الأمن باعتباره مطلباً وحاجة إنسانية أولية، وتعريفهم بأخطار التكفير والإرهاب على الأمن الوطني بكل مقوماته.
التعاون مع المؤسسات الدينية والتعليمية والأمنية، لتحقيق الأمن الفكري وفق الأهداف التي تنسجم مع الثوابت الدينية والوطنية.
تثقيف الأبناء سياسياً وتعريفهم بالضوابط الشرعية التي تنظم علاقة الحاكم بالمحكوم، وتوعيتهم بحقوق غير المسلمين في المجتمع المسلم.
تعزيز الجانب العقدي في نفوس الأجيال الناشئة بناءً على فهم صحيح للدين ومقاصده الشرعية وتعوّده نبذ الغلو والتطرف، وانتهاج الوسطية والاعتدال فكراً وسلوكاً.
إن الأسرة تعمل على نقل ثقافتها - من لغة ودين وتقاليد وعادات واتجاهات وقيم ومعلومات ومهارات - إلى أطفالها، وبناء شخصياتهم لجعلهم أفراداً نافعين لمجتمعهم وقادرين على مواجهة متطلبات الحياة والاعتماد على أنفسهم في المستقبل؛ فالأسرة يجب عليها أن تعمل بكل جدية على تدريب الطفل على السلوك الإيجابي الجميل وعلى تجنب السلوك السلبي القبيح، فمن أجل أطفالنا يكون التزامنا بالعادات، ومن أجل أطفالنا يكون حرصنا على الحفاظ على قيمة التسامح.
"يجب إدخال مقرر دراسي أو أكثر في مناهج
التعليم الجامعي تتناول ثقافة التسامح"
دروس مستفادة
إن أشد ما تحتاج إليه مجتمعاتنا وشعوبنا في وقتنا الحالي هو التعايش الإيجابي والتسامح بين جميع الأديان والثقافات والأعراق، ليسود التعاون والمحبة، وهناك مجموعة من الدروس المستفادة يمكن الاسترشاد بها في تنمية قيمة التسامح لدى الطفل وهي:
-
العمل على توعية الأسرة بما يمكّنها من تنمية قيمة التسامح لدى الأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة.
التنشئة الاجتماعية منذ الصغر هي المحك في تفعيل التسامح، مما يجعل مشاركة الأسرة ومؤسسات التنشئة الأخرى في سياق متناغم أمراً لا بد منه، حتى يكون حب التسامح حب عطاء لا تلقٍّ، وحب وفاء لا جحود، وحب تسامح من أجل الترابط والتماسك والقوة والعمل؛ من أجل الحياة الكريمة والآمنة لكل من الفرد والمجتمع.
تزويد الأطفال بالمعلومات الصحيحة عن العقيدة الإسلامية والثقافة المنبثقة عنها يسهم في حماية الأطفال من التيارات الفكرية المغرضة، كما يسهم في تنمية قيمة التسامح لديهم.
إعداد خطة إعلامية مدروسة ترتكز إلى تنمية قيمة التسامح من أجل تعزيز ثقافة التسامح بين الأطفال.
إدخال مقرر دراسي أو أكثر في مناهج التعليم الجامعي، اختياري أو إلزامي، بحسب قرارات مجالس الأقسام العلمية، تتناول ثقافة التسامح.
تنظيم دورات علمية وتدريبية مناسبة للمعلمات؛ بخاصة معلمة رياض الأطفال، لإثراء خبراتهم وتنمية قدراتهم وزيادة كفاية مهاراتهم في مجال ثقافة التسامح.