لذا ينبغي عمل المزيد من البرامج الإرشادية لتعزيز الصحة النفسية، مصاحبة للجهود التي تقدمها مؤسسات الدولة لهذه الشريحة المهمة من أبناء من ضحوا بحياتهم لحماية الوطن ومقدراته، إضافة إلى إجراء دراسات أخرى تسهم في مساعدتهم وتعزيز الصحة النفسية وجودة الحياة في المجتمع.
لعل الفقر هو المصدر الأول لكل المعاناة اللاحقة بالطفل المتضرر من الصراعات المسلحة. لذا، تنعدم الموارد باختلاف أشكالها في حياة الطفل منذ سنواته المبكرة، إذ تتسبب تلك الصراعات في نزوح العديد من الأسر إلى المخيمات لما تتعرض له منازلهم من هدم جراء النزاعات المسلحة، أو اضطرارهم إلى الفرار حفاظاً على حياتهم؛ الأمر الذي يُفقدهم أبسط الحقوق، مثل المأوى الدافئ في أوقات البرد القارس، والتغذية الصحية والرعاية الطبية الأولية.
كما يعاني الأطفال المتضررون في النزاعات المسلحة من قلة الموارد الغذائية التي قد يصعب وصولها إلى مناطق النزاعات؛ ما يؤدي إلى إصابة الأطفال بسوء التغذية وضعف المناعة وهشاشة العظام، وغيرها من الأمراض التي تُضعف صحة الأطفال العامة في مناطق النزاعات، وتعرضهم لمتاعب صحية مستقبلية مع تقدّم العمر.
يتجلى أثر النزاعات المسلحة في الطفل في الحرمان من فرص التعليم، حيث تؤدي إلى تشريد العديد من العائلات من مناطق سكنهم، وقد لا يستطيعون تحمل الكلفة المادية لإعادة بناء نظام حياتهم في مكان جديد بسهولة؛ الأمر الذي يؤدّي إلى حرمان الأطفال من متابعة الدراسة بصورة طبيعية، والحصول على الفرص التعليمية الجيدة، والفرص الوظيفية الجيدة في المستقبل.
أهمية تماسك الأسرة
ربما يتساءل أحد في نفسه: كيف يدرك الطفل الأحداث الصادمة التي يتعرض لها من النزاعات المسلحة؟ الإجابة بسيطة، على الشخص أن يعود بذاكرته إلى زمن بعيد، عندما كان طفلاً صغيراً يعيش في عالم الكبار "الخارقين" وكان يؤمن بأنهم خارقون. زمن كانت كل الأشياء العادية تبدو كبيرة وغير مفهومة، زمن كان يؤمن فيه بوالديه، وأنهما من الأبطال الخارقين، يمتلكان كثيراً من القدرات والصلاحيات، زمن كان هو فيه طفلاً مدللاً يطلب من والديه الحماية، وكل ما يشتهي ويخطر على باله.. هل تتذكر؟ الآن تخيل أنك هذا الطفل الصغير الذي مر بظروف حرب وما فيها من قتل، وقصف، وموت، وحصار، وتدمير، ولم يكن هذا هو أصعب ما مر به. بل رؤيته لوالديه عاجزين، وقد كان يعدهما خارقين، فرأى عجزهما عن دفع الأذى عنه أو حتى عن نفسيهما. راقب انهيارهما، وخوفهما الواضح على وجهيهما الشاحبين مما يحدث حولهما من أحداث مفزعة نتيجة النزاعات المسلحة. الآن ستصل إليك مشاعر هذا الطفل الصغير بالتأكيد، وتستطيع تفهم ردود فعله للتمكن من مساعدته في ظل الظروف الصعبة، وهذا هو المطلوب.
عندما يفقد العديد من الأطفال أسرهم بالكامل أو أغلبها في الصراعات المسلحة والحروب، يتعرضون لظروف قاسية كالعمل المبكِر، أو العمل بالسخرة في أعمال شاقة ومرهقة لهم جسدياً ونفسياً، بسبب الاحتياج الشديد إلى المال أو تسلّط المجتمع عليهم؛ الأمر الذي يُفقدهم البراءة، إذ يحملون المسؤولية ويواجهون صعوبات الحياة، ويُحرمون من استمتاعهم بطفولتهم، ويدخلون إلى حياة الكبار الشاقة في وقت مبكِر.
إن الأسرة هي عالم الطفل الأول، وعلاقته بها هي الأوثق والأهم في حياته، والصراعات المسلحة تُدمر أمان الطفل الاجتماعي، إذا تعرض الطفل لصدمة فقد الأهل، فتنقلب حياته رأساً على عقب، ويُترك فريسة الوحدة والخوف من المجهول، بعد انهيار نظام حياته واضطراره إلى تحمل مسؤولية نفسه في سن مبكِرة، من دون حماية أو توجيه.
نادراً ما تستطيع العائلات المتضررة، بسبب أثر تلك النزاعات المسلحة وظروفها المتقلبة، الحفاظ على استقرار الطفل، فيفقد الأطفال الاستقرار. كما أن كثرة التنقل من نظام حياتي إلى آخر، يحرمهم الشعور بالأمان ويسبب لهم صدمة هجر منازلهم وأصدقائهم المتعلّقين بهم، ومنهم مَن يتعرضون لظروف أسوأ حالًا مع الوقت، وتتخطى معاناتهم مجرد محاولات التأقلم مع الأوضاع الجديدة وسريعة التغيير.
إن أي نزاع مسلح ينطوي على العديد من المشاهد القاسية والأهوال التي لا يستوعبها عقل ولا يتحملها قلب، ويعاني بسببها العديد من الناس الاضطراباتِ النفسيةَ العميقة، التي يصعب علاجها، وقد تستغرق أعواماً طويلة لتجاوزها، فكيف بالأطفال عندما يتعرضون للصدمات النفسية بسبب الأحداث المؤلمة، مثل القصف، أو مشاهد القتل، أو فقد الأهل، أو الهجرة غير الشرعية، أو التهجير؟ ولأن أحداث مرحلة الطفولة تترك حرجاً عميقاً في النفس البشرية، مهما يبلغ الطفل من العمر، تبقى رحلة التعافي من المشاهد القاسية وفقد الأسرة والأمان الاجتماعي رحلة شاقة، يفشل عدد كبير من الناجين من النزاعات المسلحة والحروب في تجاوزها، ويحتاجون إلى دعم نفسي منقطع النظير.
إنشاء بيئة آمنة يشعر فيها الطفل بحب غير مقترن بقيد أو شرط

مأساة الطفل الفلسطيني
خلال هذه الرحلة الصعبة، من الضروري أن نعمل على إنشاء بيئة آمنة، حيث يشعر الطفل بالأمان، ويشعر بحب غير مقترن بقيد أو شرط. فعلينا أن نشجع التواصل المفتوح الذي يسمح له بالتعبير عن مخاوفه وحزنه وارتباكه من دون حكم. ويساعدك الاستعداد بالاستماع إليه وفهم مشاعره على الشفاء. وعلى الرغم من أن الطريق قد يبدو طويلاً وغير واضح المعالم، فإن الطفل ليس الوحيد وسط المعاناة، لذا، يجب أن نجعل من قصة معاناة النزاعات المسلحة منارة للأمل للعائلة وللطفل، حيث يعيش كثير من الأطفال معاناة الصراعات المسلحة، سواء في المجتمع الواحد أو في مجتمع مختلف ويعانون من ويلاتها، ومنها التجربة القاسية التي يعيشها أطفال غزة حالياً جراء حرب الاحتلال الإسرائيلي على بلدهم. وكحال غزة تتعرض عدد من البلدان لصراعات وحروب تترك أثرها العميق في الأطفال، ومنها أفغانستان والسودان والعراق وسوريا وغيرها.
وكما تشكل الصراعات المسلحة ضغوطاً نفسية على أطفال فلسطين، فإنها أيضاً تشكل الضغوط نفسها على أطفال العالم العربي بل العالم أجمع، إذ يتابع الجميع بالصوت والصورة، وبشكل مباشر العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة وما يخلفه من آثار مروعة من قتل مباشر بالصواريخ والقذائف وغيرها، فيصيبهم إما بالموت أو بإعاقات وعاهات مزمنة.
ما يتعرض له أطفال النزاعات المسلحة من مشاهد رعب وقتل ودمار سيترك آثاراً نفسية سلبية عديدة فيهم، سواء على المدى القريب أو البعيد، لذا فإنهم بحاجة إلى جلسات تأهيل نفسي تجعلهم يخرجون من هذه الحرب بأقل الخسائر النفسية.
كما أن أجواء النزاعات المسلحة تولد لدى الأطفال مشاكل عديدة منها:
القلق الشديد، وخاصة الخوف من الموت أو الفقدان.. مشاكل النوم والأحلام المزعجة المترتبة على الذكريات المؤلمة التي خزنها عقلهم الباطن.. دخول الطفل في حالة حزن شديدة قد تعرضه للدخول في حالة اكتئاب. ومن الممكن أن يصبح سريع الانفعال، ويدخل في نوبات غضب شديدة مبالغ فيها عند أبسط المواقف على سبيل التفريغ الانفعالي لجرعات الألم والخوف والقلق التي مر بها في المشاهد الصعبة .
إن شعور الأطفال بالخوف أمر طبيعي إذ يشعر به أي شخص لو كان في ظروفهم نفسها، فمن المناسب مساعدتهم ومساعدة أهلهم على تقبل مشاعر الخوف وعدم التهرب منها بالكبت. لذا ينبغي على الأمهات والآباء أن يتفهموا هذه الآثار، ويساعدوا الطفل على تفريغ هذه المشاعر السلبية .
ووفقا لما رأيناه على الشاشات وما تحدث به أهل غزة، فإن هذا الصراع المسلح الغادر كان الأقسى والأكثر شراسة، وهذا يتطلب مجهوداً أكبر من الأهل والأطفال لتجاوز التراكمات النفسية المترتبة على هذا الصراع غير المتكافئ .
إن غالبية أهل غزة مرت عليهم حروب سابقة، وواجهوا مع أطفالهم الكثير من الخوف والألم النفسي، وكانوا يحاولون جهدهم احتواء أطفالهم ومساعدتهم على تخطي هذا الألم النفسي، ولا يزال أطفاله أبرز الضحايا، فها هم يسجلون شهاداتهم تارة بالكلام وتارات بالدم، وبالغياب تحت ردم منازلهم أو خيامهم. لذا من المهم العمل على رفع معنويات أطفال الحرب من خلال نشاطات، فهذه النشاطات مهما تكن بسيطة فإن أثرها كبير، بحسب الخبراء .
إعطاء الأطفال الفرصة للتعبير عن معاناتهم بطرق مباشرة وغير مباشرة

النجاة من الآثار المدمرة
يحتاج الطفل في أثناء الظروف الصعبة كالأزمات المسلحة إلى أمور بسيطة ولكنها مهمة، ليكف عن الشعور بالوحدة، ويقدر على التأقلم مع معاناته بشكل أفضل، وأن يواجه الأوضاع الصعبة، ولذا من المهم أن يعبر الأطفال عن معاناتهم بطرق مباشرة وغير مباشرة. وتختلف ردود الفعل من طفل إلى آخر، وتعتمد على 3 عوامل هي: نوع الحدث، وطبع الطفل وعمره، والجو الأسري ومدى قوة علاقة الطفل بأسرته.
أما الطرق غير المباشرة فتكون بظهور مشكلة تعبر عما يمر به، مثل:
- تعبير قد يأتي عن طريق شعوره: بالخوف، التوتر، الضيق، الانزعاج، الغضب، الحركة الزائدة، وطرح الأسئلة بشكل مفرط
- اضطرابات في الكلام كالتلعثم أو "التأتأة"
- عدم التحكم في التبول أو التبرز، إما إمساك أو إسهال أو التبول اللاإرادي.
- نكوص: أي عودته إلى سلوكيات طفولية غير مناسبة لعمره، مثل: الحبو، أو مص الأصابع وغيرها من الأمور.
- اضطرابات في النوم مثل: الإصابة بالأرق، أو الكوابيس، أو الإفراط في النوم.
- أمراض نفسجسمية، وهي الأمراض الجسدية سببها نفسيا، مثل: تشنج الأطراف نتيجة للتوتر النفسي، وأحياناً آلام في البطن، أو الرأس.
- شدة التعلق بأفراد أسرته، وخصوصاً والديه، والالتصاق بهم طوال الوقت خوفا من فقدهم
ومن المهم ألا نكذب على الطفل، ولا نستخف بذكائه؛ فالطفل حتى إن لم يكن لديه الفهم الكافي والمعلومة الكاملة، إلا أنه يشعر بما يدور حوله. والكذب على الطفل أو تضليله أو إعطاؤه الأمان المزيف يجعله يفقد ثقته بالراشدين من حوله .
وعلى ولي الأمر أن يكون متفهماً ومتعاطفاً، وأن ينتبه تماماً للغة جسد الطفل وتعبيرات وجهه، ويعترف بمشاعره ويسميها بمسمياتها الحقيقية، فلا يوجد في مسألة المشاعر صح أو خطأ، وأن يبتعد عن النصائح الجاهزة والمحاضرات الطويلة، وأن يتجنب النقد وإصدار الأحكام لما سيسمعه من الطفل، وأن يتذكر أن الطفل ذكي وأن تعبيرات وجهه ستترك فيه أثراً سلبياً أقوى، ولو لم يقل كلمة واحدة، وأن يؤكد له أنه مدرك مشاعره التي عبر عنها، وأنه يتفهمها جيداً، ويأخذها على محمل الجد ويحترمها.
عندما يعبر الطفل عن خوفه فعلينا أن نؤكد له تفهمنا مخاوفه. وعندما يعبر لنا عن مشاعر الكره والحقد التي شعر بها بسبب الأحداث حوله، فمن المهم أيضاً تقبل مشاعره السلبية، وفي مرحلة لاحقة يمكن العودة إلى تصحيح المعلومات وتوضيح الأحداث، وعلينا أن نساعد الطفل على التّعامل مع الظروف الصعبة.
إن أحد العوامل الأساسية التي تسهم في زيادة الخوف هو انعدام المعرفة أو قلتها، فكثير من مخاوفنا تنبثق من أمور غير معروفة لنا أو غير محددة. وبما أن الأطفال بصورة عامة معرفتهم محدودة، فإن هذا يزيد مخاوفهم، ويجعلهم حائرين، ولديهم العديد من التساؤلات.