"كاتب الأطفال الناجح يغرس القيم مكسوّة
بثوب من المتعة ومغلفة بالتشويق والإثارة"
من ثم كان على كاتب الأطفال وهو يحاول غرس قيمة من القيم أن يكسبها ثوبًا من المتعة، ويغلفها بالتشويق والإثارة لتتحقق اللحظة الجمالية في اللحظة ذاتها التي تبث فيها تلك القيم؛ ما يجعل ترسيخها في وجدان الطفل أمراً سائغًا مقبولاً بطريقة فنية من دون أية صياغة وعظية توجيهية.
وسوف نسوق نموذجين من الأعمال التى تجمع بين الجمالية/ القيمية، وتمزج بين الفن والتربية، وهما من إصدارات سلسلة "رؤية للنشء"، وهو المشروع الذي يصدر بالتعاون بين وزارتي الثقافة والأوقاف المصريتين. وأول هذه النماذج قصة "قطار الأخلاق" للكاتب محمد المطارقي، والذي يضم بين دفتيه أربع عشرة قيمة أخلاقية عبر اصطحاب الأطفال في رحلات ممتعة ومدهشة في القطار الطفولي الرائع الذي يحتوي بداخله على كل الوسائل التكنولوجية الحديثة، ووسائل التواصل الاجتماعي، بل كل وسائل التسلية، والإمتاع، والثقافة؛ إذ يتعرف هؤلاء الأطفال أنفسهم على مدار أربع عشرة رحلة - هي عدد عربات القطار - إلى أربع عشرة قيمة أخلاقية هي: أدب الاستئذان، وإفشاء السلام، والإخلاص، والصدق، والأمانة، والعدل، والرحمة، والتسامح، والوفاء بالعهد، والكرم، والرفق، والتواضع، والصبر، والشكر.
"محمد المطارقي يأخذ الأطفال في
"قطاره" ليعلمهم 14 قيمة أخلاقية"
ويعد هذا العمل أنموذجًا للجمع بين الفن والتربية؛ حيث جمع عنوانه بينهما بين الأخلاق (المعنوي) والقطار (المادي)، ولا يغفل أحدنا متعة الطفل بركوب القطار، والتمتع برحلته وسط الطبيعة وجمالها؛ فقد سلط المطارقي الضوء على تلك المناظر الطبيعية المصاحبة لرحلة هذا القطار، قطار الأخلاق، حيث تكتسي الأحداث بجو من السحر والجمال والصفاء والمتعة، فضلاً عن استخدام بعض الكلمات بمؤثرات صوتية للقطار؛ إضافة إلى إمتاع الطفل بوصف الألوان؛ ومن ثم تحدث للطفل التهيئة النفسية للتفاعل مع القصة، واكتساب القيمة الخلقية: " توووت... توووت... القطار الملون قادم من بعيد، يطلق صافرته المميزة، ويرفع راياته لتداعب الهواء، إنه القطار الطفولي المدهش، يبدو أنه خرج لتوه من المزرعة... كانت تطل من النافذة وجوه مضيئة كأنها الأقمار، تبتسم في عذوبة، تمد أياديها الجميلة بالأطعمة والهدايا القيمة لكل الصغار الذين يحرصون على سلوكياتهم وأخلاقهم".
وبعد تلك الأجواء الساحرة فى أرجاء الطبيعة الخلابة، وفي مداعبة خيال الطفل بتجسيد الأخلاق بقطار طفولي مدهش، وسوق القيم الأخلاقية بأربع عشرة رحلة؛ يأتي تناول المعلومات الخاصة بهذا الخلق، وتلك القيمة في إطار سردي تتجلى فيه نقطتان فريدتان تصبان بفكرة الفنية التربوية، أو التربية بالفن، أولاهما: مشاركة الأطفال أنفسهم في هذا الحوار من دون إبرازه على لسان الآباء أو الأجداد أو المعلمين، وثانيتهما: إجلاء دور وسائل التكنولوجيا الحديثة في البحث عن المعلومات المفيدة؛ إذ استقى الأطفال معلوماتهم عن كل قيمة من خلال التابلت (الحاسب اللوحي)، أو الهاتف المحمول، أو اللاب توب ( الحاسب المحمول) فى إشارة إلى حسن استثمارها في المعرفة والتعلم.
"في "مغامرات" حسام فاروق نجد القيم مبثوثة في ثنايا
القصص بطريقة لا تشعر بأنها مقصودة من المؤلف"
علاقة تكاملية
وفي إطار رصد العلاقة التكاملية بين (الفن والتربية) فحريّ بنا أن نعرّج إلى الكتاب، وهو "مغامرات فلفلة" للكاتب حسام فاروق، والصادر أيضًا ضمن السلسلة ذاتها، فنجده يضم بين دفتيه ثلاث عشرة قصة، هي:"آثارنا الجميلة، سر السعادة، أغلى هدية، الذكاء الاصطناعي، بذور الخير، رد الجميل، مصل فيروس كورونا، ثمرة التعاون، الهجرة دروس وعبر، رحلة سعيدة، التعليم الإلكتروني، اصنع مستقبلك، العُقد الفريد".. ولعلنا نشير في هذا المضمار إلى طغيان الفن على التربية، أو بالأحرى عرض القيم التربوية والخلقية بصورة فنية؛ بدءًا من عنوان العمل الرئيس، والذي يحمل كلمتين غنيتن بالدلالة وتبعثان الإثارة والمتعة والتشويق في وجدان الطفل؛ إذ إن كلمة "مغامرات" وحدها كفيلة بتحفيز مخيلة الطفل، وتلهفه لإدراك كنه هذه الأحداث المثيرة التي تقوم بها طفلة في سنهم نفسها، ولاسيما إن كان يحمل اسمها تدليلاً، أو ألفة؛ فهي الطفلة "فلفلة".
وعلى الرغم من امتزاج الفن والتربية في هذه المجموعة؛ فإننا نجد القيم مبثوثة في ثنايا الحبكة الفنية بطريقة لا تشعر بأنها مقصودة من المؤلف، وأن الحدث نفسه هو المقصود لذاته، ولعل هذا يظهر جليًا في اختيار عناوين القصص الداخلية؛ إذ يدور محور العمل حوله ولا تجد إقحامًا للفظ أية قيمة تربوية مستهدفة، وعلى الطفل أن يستشعر تلك القيم بنفسه؛ ففي قصة "آثارنا الجميلة" تجد الكاتب يقدم معلومات قيّمة عن الآثار المصرية عبر تنظيم المدرسة رحلة إلى الأقصر وأسوان، إذ تتجه أحداث هذه القصة صوب التعريف بالحضارة المصرية العريقة والآثار الخالدة بهاتين المدينتين، إلا أننا نلحظ قيام الفعل الدرامي على فقد الطالبة "سمسمة" إثر عدم التزامها ببرنامج الرحلة، واستجابتها لفضولها بدخول إحدى الغرف لتشاهد التمثال الرائع الذي تتعامد الشمس على وجه صاحبه يوم مولده في كل عام، في حين التزمت "فلفلة" بنصيحة والدتها:" سوف نسمح لك بالذهاب، ولكن بشرط أن تكوني دائمًا مع مجموعة من صديقاتك وبالقرب من المشرفة"؛ ومن ثم تتمازج المعلومات التاريخية المقصودة مع القيم التربوية المبثوثة من خلال حبكة فنية محكمة، تذوب فيها المعلومة مع القيمة ( التربية مع الفن).
وعلى النسق ذاته تقوم كل حكايات حسام فاروق في هذا العمل، ولنضرب مثالاً آخر على ذلك؛ وهو القصة التي خُتمت بها مغامرات فلفلة، وهي "العُقد الفريد"، ولا يخفى علينا في معرض تناولنا هذا النص أن نشير إلى تناصه وتماسه مع أحد كتب التراث والمسمى بـ "العِقد الفريد" لابن عبد ربه، وتدور أحداث هذا النص حول مطالعة الطلاب درسًا عن الصدق والأمانة وأهميتهما في المجتمع، لكن ثمة صراعاً يدور في وجدان فلفلة حين عثرت على عقد نفيس في فناء المدرسة؛ فهل تبيعه وتحصل على أموال كثيرة لتشتري ما تريده أم تسأل عن صاحبته؟!، ولكن الحيرة تبدت حينما نصحتها أمها بأن تسأل عن صاحبته؛ فهو يمثل لها قيمة كبيرة، وقطعًا سيحزنها فقده. وبالفعل ترده فلفلة إلى الأستاذة أحلام بعد أن علمت أنها كانت تبحث عنه، وهنا تكرم إدارة المدرسة الطالبة المتميزة فلفلة التي ضربت المثل الأعلى في الأمانة، وبذا يكون فاروق قد اتبع النهج نفسه، ولعله قام بما يشبه المناورة الفكرية منذ سلط الضوء على العقد منذ جعله عنوان العمل، بل محور الأحداث، ووصفه بالفرادة ليس فقط لنفاسته وقيمته المادية، وإنما لقيمته المعنوية التي اكتسبها من مكانة جدتها التي أهدتها إياه، ولا يكاد يشعر المتلقي/ الطفل بأن المغزى التربوي ( الأمانة) موجود في العمل، بل يجده جزءًا أصيلاً من بنيته الفنية.
التربية والتكنولوجيا الحديثة
وإذا كانت التكنولوجيا الحديثة قد أطلت علينا في "قطار" المطارقي - حين وظف التابلت، والمحمول، واللاب توب وسائط للمعرفة والبحث، وقد استخدمها أبطال العمل لسرد القيم الخُلقية التي تألفت منها عربات القطار الطفولي - فإن "مغامرات" فاروق لم تغفل تلك القضية التي باتت هي الشغل الشاغل للأطفال والنشء في هذه الحقبة، وإن تعدى توظيفه لها فكرة التوقف عند استخدام التقنية الحديثة في البحث عن المعلومات، بتناوله قضايا البحث العلمي؛ فخصص لها ثلاث قصص، هي: الذكاء الاصطناعي، ومصل فيروس كورونا، والتعليم الإلكتروني. في القصة الأولى جعل الأطفال يستكشفون عبر رحلة علمية بعضًا من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بيد أنه مزج الهدف التربوي في نهايتها؛ إذ لا يمكن الاستغناء عن الذكاء البشري الذي هو من صنع الله، وفي القصة الثانية نراه يجسد الحلم بقدرة مراكز الأبحاث المصرية والعالمية على التعاون لاكتشاف مصل لعلاج فيروس كورونا، ومن ثم جاءت القصة الثالثة متواكبة مع سابقتها؛ إذ فرضت جائحة كورونا نمط التعليم الإلكتروني، فتناول ثماره في التعليم، والبحث، والتواصل، كما لم يفُتْه أن يرسخ قيمًا تربوية تبدد المخاوف من صعوبة الاعتماد عليه، وذلك عبر آلية فنية؛ ليدرك الطفل/ المتلقي في النهاية أن "الإنسان عدو ما يجهل"، وأن "الحاجة أمّ الاختراع" .