إن الشعور بالمواطنة يعتبر من أهم العناصر الجوهرية لتحقيق التماسك والترابط بين أفراد المجتمع، لإيمانهم بأنهم يتمتعون بهوية مشتركة، وأنهم قادرون على المحافظة عليها وحمايتها، مقابل الالتزام بواجباتهم نحو الدولة والمجتمع. إذاً "ولا يمكن إقامة هذه العلاقة العضوية "المواطنة" بين الفرد من ناحية، و"الوطن" من ناحية أخرى، من دون وجود الطرفين، المواطن والدولة؛ أي لابد من وجود المواطن - الفرد - الإنسان الذي يشعر بالانتماء، ومن ثم الدولة - المسؤولة التي ترعى المواطن، وتكون قادرة على الوفاء باستحقاقات "المواطنة".
هذه الرؤية السابقة هي الرؤية العامة في مفهوم المواطنة في البيئات المكانية والزمانية على كوكب المعمورة، ولكن في عالمنا المعاصر ظهرت أفكار أخرى، استطاعت أن تخلق فضاءات أخرى مغايرة للبيئة التقليدية، فصنعت بيئة افتراضية، وخلق عالم الإنترنت، هذا العالم السيبرانى، هذا الفضاء المتسع واللامحدود.
من هذه الأفكار مفهوم العولمة، وهي كما يراها رونالد روبرتسون مؤلف كتاب العولمةGLOBALIZATION إنها تطور نوعي جديد في التاريخ الإنساني بعد أن أصبح العالم أكثر ترابطاً وأكثر انكماشاً، كما يرى أن الوعي بهذا الترابط والانكماش، هو إحدى سمات هذه اللحظة التاريخية. “ معنى ذلك أن هناك بعداً عالمياً اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وإنسانياً للعولمة، يصبح العالم من خلاله قرية صغيرة، وقد يكون لهذا الانكماش أضرار على المجتمعات الإنسانية في هويتها واقتصادها وبنيتها الاجتماعية، ولكنه التطور التاريخي، ومن ثم علينا أن نعي هذه الحالة، ونأخذ الجانب المضيء في العولمة من هذا الاتصال والتواصل، والتفاعل في الجوانب الخيرية لنهضة الإنسان والمجتمعات.
إن موجة العولمة لم تتوقف، ولكنها أخذت تتسارع مستمدةً حيويتها من الثورة العلمية والتكنولوجية الراهنة، ومن التطورات الفائقة في وسائل الاتصال والمعلومات، وصنعت الموجة الرابعة في عصر المعرفة، إنه عصر الإنترنت The Age of Internet. نعم.. إن الإنترنت الآن صار عنصراً أساسياً في حياتنا، هذا الفضاء الافتراضي الذي أصبح ملتقى الآراء المتعددة، والمجموعات ذات الأطياف المتنوعة، إنها بوتقة تتجمع فيها كيانات كثيرة. إننا على سبيل المثال نستخدم الإنترنت في التواصل، ومخاطبة الأصدقاء في أي مكان من العالم، نستخدمه في قراءة الأخبار العربية والعالمية، في الحصول على المعلومات في المجالات العلمية والثقافية، والفنية، والرياضية. نعم، يمكننا أن نكتشف عوالم جديدة بكل تقنياتها الحديثة عن طريق الإنترنت، ومن ثم خلقت مجالاً جديداً للتفاعلية، في التعلم، والتحليل، والرؤى النقدية، وغيرها من تبادل الخبرات، والذي بدوره يمكن أن يحقق قيمة للإنسان لمزيد من تحقيق أهدافها وطموحاتها والحماسة والدافع والباعث على المشاركة الفعالة، والتفاعل في المجتمع. "ومما لا شك فيه أن التعليم في القرن الحادي والعشرين الذي سيغلب عليه ـ نتيجة اعتبارات شتي ـ أن يكون تعليماً عن بعد، سيطبق هذه القيم، ومن ثم ستصاغ العقول صياغة جديدة، بحيث تكون قادرة على إنتاج الفكر الابتكاري، والإبداع في كل المجالات." إن هذه الروح العالمية فتحت مفهوماً جديداً للمواطنة في المجتمع العالمي وهو "المواطنة الرقمية Digital Citizenship".
في هذا المجتمع الرقمي يجب أن يتم
التواصل باحترام مع الأشخاص والأماكن
واحترام خصوصية الآخرين
وهنا يطرح السؤال نفسه: ما المواطنة الرقمية؟.. إنها "جودة استجابة الفرد للعضوية في المجتمع." وهذا يجعل المواطنة أكثر تعقيدًا بكثير من كونها مسألة قانونية بسيطة، ولكنها بالأحرى مسألة تتكون من معرفة الذات والتفاعل والمعرفة الوثيقة بالمكان وشعبه وتاريخه الثقافي. لذا فإن المواطنة الرقمية هي "جودة الاستجابة للعضوية في مجتمع رقمي" .
لذلك يجب في هذا المجتمع الرقمي أن يتم التواصل باحترام مع الأشخاص والأماكن، واحترام خصوصية الآخرين، ورؤية الأشياء من منظور آخر، وإضافة معلومات/ سياق مفيد إلى مناقشة، ودعم الآخرين من خلال تقديم ملاحظات مفيدة، أو تشجيعهم، أو مشاركة العمل الذي يفخرون به... في بيئة المجتمع الرقمي التي تدفع إلى البنائية والأفضل.
وهنا يبرز مصطلح أخر وهو المواطن الرقمي "Digital-citizens" وهو "الشخص الذي يطور المهارات والمعرفة لاستخدام الإنترنت والتقنيات الرقمية الأخرى بشكل فعال، بخاصة من أجل المشاركة بمسؤولية في الأنشطة الاجتماعية والمدنية."
الإنترنت ليس مفيداً إلى درجة الكمال،
وليس رائعاً إلى درجة السحر
يجب أن نتفهم بنظرة موضوعية أن الإنترنت ليس مفيداً إلى درجة الكمال، وليس رائعا إلى درجة السحر، ولكنه من منظور آخر يمكن أن يكون ذا ضرر كبير لمستخدميه، فالإنترنت أيضاً مليء بالمواقع الفوضوية، والمثيرة للشائعات والتي تؤدي إلى إهدار للوقت وللقيم والأخلاق، "ستغير الثورة الرقمية حياتنا اليومية إلى حدٍّ كبير، وستحدث تغييرات ثورية ودائمة في حياتنا ومجالات عملنا" لأنه حتى وأنت على الطرف الآخر من التفاعل والحوار الرقمي لا يمكنك أن تعرف إن كان المحاور لك إنساناً أو روبوت، لا تنزعج، إنه المجتمع الرقمي، إنه التغير والتطور في الابتكارات التكنولوجية، والتطور في سبل حياتنا اليومية، ولعل من أبرز تلك التطورات أن الجوّال "الموبايل" أصبح يحتل مكان الكومبيوتر، وهذا جعل من التكنولوجيا استخداماً شعبياً عالمياً، ومن جهة أخرى، التعامل مع إنترنت الأشياء Internet of Things، هذا المصطلح الذي يُقصد به الجيل الجديد من الإنترنت الذي يتيح التفاهم بين الأجهزة المترابطة مع بعضها، عبر بروتوكول الإنترنت مع بعضه. وتشمل هذه الأجهزة الأدوات والمستشعرات وأدوات الذكاء الاصطناعي مثل تواصل الأشخاص مع الحواسيب والهواتف الذكية، وهذا يتيح للإنسان التحرر أكثر من قيود المكان: أي أن الشخص يستطيع التحكم في الأدوات من دون الحاجة إلى وجوده في مكان محدّد للتعامل مع جهاز معين. مرحلة أخرى يجب أن نستعد لها بحكمة، كل ذلك خلق حياة جديدة للمواطن العالمي.
"إنترنت الأشياء" جيل جديد يتيح التفاهم
بين الأجهزة المترابطة مع بعضها
هذا ما قاله بيل جيتس من خلال شبكات الإنترنت يمكن الانفتاح على الآخر، "لقد أصبح ممكناً الآن أن يرسل أي إنسان إلى إنسان آخر رسالة عبر الإنترنت، لأغراض تجارية، أو تعليمية، أو حتى لمجرد التسلية. وبإمكان الطلاب في مختلف أنحاء العالم أن يرسلوا الرسائل بعضهم إلى بعض.
وأنت على الطرف الآخر لا يمكنك أن تعرف
إن كان المحاور لك إنساناً أو روبوت!
كذلك استطاع المتراسلون، الذين ربما لن يرتاح كل منهم إلى الآخر لو تبادلوا الكلام بشكل شخصي مباشر، أن يشكلوا روابط صداقة عبر الشبكة. وسوف يضيق طريق المعلومات السريع إلى ذلك الفيديو، الذي سيلغي لسوء الحظ الاتحاد الاجتماعي، والعرقي، والجنسي الذي يتيحه التبادل المعلوماتي." هذا يتيح التعرف إلى التيارات والرؤى المعرفية المختلفة، وعلى القيم في الثقافات الأخرى، ومن ثم فهذا يولّد التلاحم والتنوع والتلاقح مع المعارف المغايرة، هذا يمكن أن يولّد إبداعات جديدة؛ مما يخلق إبداعاً مغايراً لتلاقح الأفكار.
في عالمنا الرقمي عليك أن تنتبه إلى آفة
خطيرة وهي ثقافة الإلهاء