"لا تبخلين على ابنك بشيء، ولا تهتمين بنفسك في سبيل
تعليمه في أفضل المدارس فكيف يصير كاذباً ومزوراً؟!"
اشتاقت سلمى لاستكمال الحديث مرة أخرى مع اختصاصية التربية، فهاتفت صديقاتها وذهبن إلى مكان تجمعهن نفسه، ولكن اليوم غريب؛ فها هي أمنية تبكي بحرقة، والسبب هو أن ابنها سيف قد عدل في نتائج اختباراته واكتشفت ذلك معلمته فأرسلت "استدعاء وليّ الأمر".
كانت كلمات أمنية مفهومة بالكاد من بين دموعها فقالت: نحن لا نبخل عليه بشيء على الإطلاق، لم نهتم بأنفسنا كي نعلمه في أفضل المدارس كيف يصير كاذباً ومزوراً؟
سبقت الأيدي الكلمات في التربيت على كتف أمنية؛ فواحدة تقول: لا عليكِ، فجميع الأطفال يخطئون، والأخرى تنصحها: لا بد من عقابه بشدة، اضربيه، والأفضل أن تمنعيه من الخروج من المنزل لمدة أسبوع. وتكمل أم ثالثة: ابني حينما يخطئ آخذ منه الهاتف، ويعد ذلك أسوأ أنواع العقاب بالنسبة إليه، وبعدها يتغير سلوكه تماما.
تقاطعها هند اختصاصية التربية الإيجابية: وهل يصارحك لاحقاً؟.. العيون تتابع، وهند تنضم إلى المجموعة متخذةً من مقعد في أحد الأركان جلسةً لها، وتكمل: من السهل أن نعاقب، ولكن لا بد من أن نضمن ألا تضيع المحبة، وأن نتفق مع أطفالنا على العقاب.
تضحك إحدى المشاركات: نتفق معهم؟ وهل سيقبلون؟ من الواضح أن الاختصاصيين في التربية يعيشون على كوكب آخر!
تبتسم الاختصاصية هند، وتكمل أن التعامل مع الأخطاء له أسلوب معين، ذلك لأن الاستجابة الصحيحة البناءة من قبل الوالدين تلعب دوراً مهماً في توجيه الطفل وتعليمه. دعونا لا نركز على العقاب الجزئي التقليدي، وتكون لنا منهجية للتعامل مع الأخطاء. فمثلاً يمكننا توجيه الاهتمام إلى تصحيح السلوك بدلاً من التركيز على إلحاق الأذى أو العقاب الجسدي.
الجميع ينصت بشغف بينما تكمل هند حديثها: هل فكرتِ يا أمنية في أن تستخدمي خطأ سيف أداةً لتعليمه، أتعرفين؟ لدينا مبدأ رئيس في التربية الإيجابية ننادي به؛ وهو أن "الأخطاء فرص للتعلم" نعم هي ليست فرصاً للعقاب، بل للتعلم. وأضيف لكِ أنها فرص لإظهار الحب أيضاً.
بدلاً من ضرب سيف أو حرمانه وجّهي الأمر لتعليمه، اجلسي معه بحب، وتحدثي معه بود عن أسباب تصرفه، اشرحي الخطأ، ووضحي ما ترتب عليه نفسياً لكِ ولوالده. وضّحي ما كان سيحدث إذا اختار أن يعترف بأن درجاته سيئة، ساعديه على تحديد المشكلة، واتفقا معاً على طريقة لعلاجها. لا تنسي أنني قلت "اتفقا" الأمور لا تسير بالأمر والنهي دائماً.
قاطعتها إحدى المشاركات: وماذا عن ابنتي التي لا تكف عن نسيان واجباتها؟ فردت هند: بجانب تصحيح السلوك، لا بد من أن نركز على تعليم الطفل مفهوم المسؤولية والعواقب المترتبة على أفعاله. على سبيل المثال: إذا كان الطفل قد نسي واجبًا مدرسيًا، فيمكن للوالدين أن يجلسا معه ويناقشا أهمية التنظيم والمسؤولية في إكمال المهام المدرسية.
أكملت هند: إن استخدام المكافآت البناءة والتشجيع لتعزيز السلوك الإيجابي أكثر قوةً من البحث عن الأخطاء والعقاب عليها. من الأفضل أن يقدم الوالدان مكافأة أو تشجيعاً إضافياً إذا أظهر الطفل سلوكاً صحيحاً أو قام بمهمة بنجاح، يعزز ذلك السلوك المرغوب ويعزز التعلم الإيجابي.
عزيزي القارئ؛ لا تقتصر عناصر التربية الإيجابية على تعزيز العلاقات الإيجابية والثقة بالنفس والتعامل بشكل بناء مع أخطاء الطفل، فهناك المزيد من تلك العناصر ومنها:
- تنمية المهارات الاجتماعية: تعد المهارات الاجتماعية جزءًا أساسيًا في عملية التربية الإيجابية؛ فقدرة الطفل على التواصل والتفاعل مع الآخرين بشكل صحيح تلعب دورًا مهمًا في نجاحه الاجتماعي واستقلاليته في المجتمع.
ويمكن تنمية المهارات الاجتماعية من خلال توفير بيئة تعليمية مناسبة. على سبيل المثال؛ يمكن تشجيع الأطفال على المشاركة في أنشطة جماعية مثل اللعب في المجموعات، والتعاون في المشاريع المدرسية، والمشاركة في الأندية الرياضية والاجتماعية.
إن تعزيز مهارات التواصل والاستماع الفعال يسهمان في تنمية المهارات الاجتماعية لدى الأطفال. يجب أن يتعلم الطفل كيفية التعبير عن أفكاره ومشاعره بشكل واضح ومفهوم، وكذلك القدرة على الاستماع بانتباه للآخرين وفهم وجهات نظرهم.
تعليم مهارات حل المشكلات والتفاوض يمكن أن يكون أيضًا جزءًا من تطوير المهارات الاجتماعية للأطفال. على سبيل المثال؛ يمكن للوالدين تشجيع الطفل على التفكير الإبداعي واستخدام استراتيجيات التفكير الناقد؛ لحل المشكلات اليومية والتواصل بفعالية مع الآخرين.
دعونا نتحدث عن أحمد ذلك الطفل الذي لا يرغب أبداً في الخروج ومقابلة الناس والاجتماع معهم، ويشعر دائما بالعزلة، والصعوبة في مواجهة المواقف الاجتماعية. وحينما لاحظت أمه تفاقم المشكلة بدأت القراءة عنها، واستخدمت أساليب التربية الإيجابية في تعليمه مهارات الاستماع بفهم واحترام والتواصل الجيد والتعبير عن ذاته ومشاعره واحتياجاته بشكل صحيح، كانت تسمعه باحترام، فعلمته أن يستمع إلى الآخرين، وحرصت على أن تسأله عن أفكاره ومشاعره ورغباته، كما ركزت على أن يشارك في الأنشطة الاجتماعية التي بها عدد قليل من الأفراد، ومن ثم تبدأ توسيع دائرة معرفته. أشركته في المجموعات التعليمية، فتعلم أحمد كيف يتعاون ويتفاعل بشكل إيجابي، وتعلم أساليب حل المشكلات والتفاوض للتعامل مع المواقف الصعبة. مع مضيّ الوقت والتدريب المستمر تحسنت مهاراته الاجتماعية تدريجيًا.
- تعزيز المسؤولية الذاتية: تنمية القدرة على تحمل المسؤولية واتخاذ القرارات الصحيحة تسهم في بناء شخصية قوية وناضجة وناجحة. ها هو مالك الطفل الذي يشيد الكل بسلوكه الإيجابي وتحمله للمسئولية رغم أنه لم يتجاوز التاسعة من العمر، عندما يتحدث أحد إلى أمه تنصحهم دائما بتعزيز المسؤولية الذاتية لدى أطفالهم، تحكي دائماً عن سلوكها مع مالك ابنها وكيف كانت تعطيه الفرصة لاتخاذ القرارات الصغيرة منذ كان في سن العامين، فيختار ملابسه وحذاءه وأدوات اللعب الخاصة به، وفي الرابعة كان مسئولاً عن تحميم نفسه بمفرده. وتنصح أمه الجميع بأن يكلف الطفل منذ صغره بمسؤولية محددة في المنزل؛ مثل المساعدة على إعداد الطعام أو تنظيف الغرفة؛ ما يعطيه الفرصة للتعلم من خلال التجربة وتجربة النجاح والفشل، ويشجعه على تحمل المسؤولية وتطوير مهاراته الذاتية.
إن التحفيز والإشادة بالسلوك المسؤول الذي قام به الطفل يلعبان دوراً مهماً في تعزيز هذه الصفة لديه. كما يعزز ثقة الطفل بقدرته على أن يكون مسؤولًا ويشجعه على مواصلة تطوير هذه الصفة القيمة؛ فالطفل الذي لا يقوم بواجباته المدرسية في الوقت المحدد، إذا شارك في تنظيم مشروع صغير من قبل معلمته - بحيث يتطلب دوره تحمل المسؤولية في قيادة الفريق وإنجاز المهام تحت إشراف وتحفيز من المعلمة – فإن ذلك يدعم تحمله المسؤولية في كل أحداث حياته اليومية.
"توجيه الاهتمام إلى تصحيح السلوك أفضل
من التركيز على إلحاق الأذى أو العقاب الجسدي"
- تعزيز الانضباط الذاتي: القدرة على التحكم في السلوك والعواطف والميل إلى القيام بالأشياء الملائمة هي مهارة قيّمة يجب تنميتها لدى الأطفال. يعتقد البعض أن التربية الإيجابية تدعو إلى تدليل الأطفال، بينما هي في الحقيقة تساعد على تقويم سلوكهم من دون استخدام القسوة.
إذا تم تعزيز الانضباط الذاتي بشكل صحيح، فإنه يساعد الأطفال على اتخاذ القرارات الصحيحة والتحكم في سلوكهم بشكل مستقل. ففي بداية العمر يكون الوالدان والآخرون ممن يقومون على تربية الطفل هم المسئولين عن تقويم سلوكه، من المفترض أن يتم تدريجياً تعزيز الانضباط الذاتي؛ بحيث يقوِّم الطفل سلوكه، ويفكر قبل التصرف.
يتطلب تعزيز الانضباط الذاتي لدى الأطفال وضع قواعد وتوجيهات واضحة للسلوك الملائم وغير الملائم. عندما يتعرض الطفل لحدود وإرشادات واضحة، يتعلم تنظيم سلوكه ويدرك التباين بين الصحيح والخاطئ. يمكن للوالدين والمعلمين تعزيز الانضباط الذاتي عن طريق توفير تنظيم بنية زمنية للأنشطة اليومية، وتحديد وقت معين للأنشطة المهمة، وتحفيز الاستمرارية في أداء المهام.
تشجيع الانضباط الذاتي يعني أيضًا تعزيز القدرة على التحمل والإصرار والتمسك بالأهداف والمثابرة لتحقيقها. عندما يتعلم الطفل أن يكون متحكمًا في نفسه ويتحمل الصعاب والتحديات؛ فإنه يكتسب قوة الإرادة والقدرة على الوفاء بالتزاماته. يمكن تحفيز الأطفال على الانضباط الذاتي من خلال تقديم مكافآت ومحفزات عند تحقيق الأهداف المحددة والالتزام بالسلوك الصحيح.
لم يكن خالد، ذو الثمانية أعوام، منضبطاً ذاتيا، لم يفرق قط بين ذلك الوقت المخصص للعب وبين الحصص الدراسية. ما إن لاحظت معلمته ذلك؛ حتى أدركت أنه ينقصه التدرب على مهارات الانضباط الذاتي، فوضعت له المهام بعد تجزئتها، وحددت له أهدافاً صغيرة وواضحة للعمل اليومي، ونظمت الوقت، وبدأت إبعاد المشتتات عنه في أثناء العمل، فساعدت خالد على ضبط ذاته.
تعزيز الانضباط الذاتي لدى الأطفال يساعدهم على تحقيق النجاح في مختلف جوانب حياتهم. إذا تمكن الطفل من التحكم في سلوكه والتركيز على الأهداف المحددة، سيكون لديه القدرة على تحقيق التفوق الأكاديمي والاجتماعي. يمكن أن يساعد الانضباط الذاتي أيضًا على تنمية مهارات إدارة الوقت والتنظيم الشخصي؛ ما يؤدي إلى زيادة الإنتاجية والتحقيق الشخصي.
"علم طفلك مفهوم المسؤولية
والعواقب المترتبة على أفعاله"
- التعامل مع التحديات والصعوبات بشكل إيجابي: يعد التعامل مع التحديات والصعوبات بشكل إيجابي من الصفات المهمة التي يجب تنميتها لدى الأطفال. ففي الحياة، سيواجه الأطفال تحديات مختلفة مثل الضغوط الدراسية، والصداقات الصعبة، أو المواقف الصعبة.
اعتادت ايمان أن تجنب ابنتها يارا الأزمات والتحديات. كانت تخشى عليها من الألم النفسي، وكانت تعتقد دائماً أنها صغيرة ولا يمكنها مواجهة التحديات. أثر ذلك سلباً في قدرات يارا على مواجهة الصعوبات. كانت تشعر بالعجز دائماً حتى لو كان الموقف بسيطاً، وبالتالي لم تستطع التكيف مع المجتمع بشكل سويّ.
إذا تم تعزيز قدرة الطفل على التعامل مع التحديات بشكل إيجابي، فإنه سيكون لديه القدرة على التكيف والنمو الشخصي.
لتعزيز قدرة الطفل على التعامل مع التحديات بشكل إيجابي؛ يجب علينا تعزيز الثقة بالنفس وتنمية مهارات التحليل والتفكير الإيجابي. يمكن للوالدين والمعلمين أن يقدموا الدعم والتوجيه اللازمين للأطفال عند مواجهتهم التحديات؛ مثل تعليمهم كيفية تحديد الأهداف وتطوير خطة للتغلب على العقبات. يمكن أيضًا تشجيع الأطفال على رؤية التحديات بوصفها فرصاً للتعلم والنمو، وتعزيز قدراتهم على الاستفادة من الصعوبات لتطوير المهارات الجديدة.
تشجيع الأطفال على التفكير الإبداعي والبحث عن حلول بديلة أمام التحديات يعد جزءًا مهمًا من تعزيز قدرتهم على التعامل معها بشكل إيجابي. يمكن للوالدين والمعلمين تشجيع الأطفال على التفكير خارج الصندوق، وتوفير بيئة داعمة تشجعهم على الابتكار واستخدام المهارات الإبداعية.
"يمكن تنمية المهارات الاجتماعية
من خلال توفير بيئة تعليمية مناسبة"
- تقديم النموذج الإيجابي: يُعد تقديم النموذج الإيجابي من الأمور الحيوية في تربية الأطفال؛ إذ يتأثر الأطفال بشكل كبير بالأشخاص الذين يحيطون بهم، وخصوصاً الوالدين والمربين؛ فعندما يكون الوالدان نموذجًا إيجابيًا في التفكير والسلوك، يصبح لدى الطفل نموذج قوي يمكنه الاستلهام منه ومحاكاته.
تأكد من أن الطفل "آدم" الذي يكذب باستمرار حين محادثة الآخرين في الهاتف، على الرغم من أن عمره لم يتجاوز الخامسة، اعتاد هذا السلوك جراء ملاحظته لأبيه الذي دائماً ما كان يطلب منه ادّعاء أن أباه غير موجود عندما يرن هاتفه، وأمه التي كانت تتهرب من مقابلة صديقاتها بالأكاذيب التي أسمتها "كذبات بيضاء".
إن تقديم النموذج الإيجابي يتضمن توضيح القيم الأخلاقية والمبادئ السلوكية المهمة للأطفال. يجب على الوالدين والمربين أن يعملوا على تعزيز قيم الصداقة، والتعاطف، والصدق، والاحترام. يمكن أن يتحقق ذلك من خلال العمل الجماعي، والمشاركة في الأنشطة الاجتماعية، وتعزيز التعاون والتفاهم بين أفراد الأسرة.
"التربية الاجتماعية ليست دعوة إلى تدليل الأطفال"
إضافة إلى ذلك، ينبغي على الوالدين والمربين أن يكونوا قدوة حسنة في التعامل مع الآخرين. يمكنهم تعليم الأطفال كيفية التعاطف والاحترام مع المحيطين بهم، وكذلك تعزيز المهارات الاجتماعية والتواصل الفعال. بإظهار التسامح والتعاطف والاحترام، يكون الوالدان قد أوضحا الطريق للأطفال لتطوير علاقات إيجابية وصحية مع الآخرين.
إن تقديم النموذج الإيجابي يعتبر عاملًا أساسيًا في تنمية الأطفال. يجب على الوالدين والمربين أن يكونوا حذرين ويفكرون في أفعالهم وكلماتهم، حيث يكونون دائمًا تحت المراقبة والملاحظة من قِبل الأطفال. يجب عليهم أن يكونوا قدوة إيجابية في التفكير والسلوك، وأن يعلموا الأطفال كيفية التعامل مع التحديات والصعوبات بشكل إيجابيّ وبنّاء. عندما يتعلم الطفل من أفراد هم الأهم في حياته كيفية التعامل بإيجابية مع التحديات، ستكون لهذه الدروس تأثير عميق في تشكيل شخصيته ونجاحه في المستقبل.
ختاماً؛ فقد استكملنا في هذه المقالة ما بدأناه حول عناصر التربية الإيجابية، فتحدثنا عن التعامل مع الأخطاء، وتنمية المهارات الاجتماعية، وتعزيز المسؤولية الذاتية، وتعزيز الانضباط الذاتي، والتعامل مع التحديات والصعوبات بشكل إيجابي، وتقديم النموذج الإيجابي.