إذا وجدت طفلك مبدعًا في الرسم
شجعه على اكتشاف مهاراته وقدم له
الدعم والإشادة بأعماله الفنية
في إحدى جلسات التجمع سلمى تشتكي دائماً "أنس لا يسمع الكلام، غاضب باستمرار، ويتجاوز في الحديث بألفاظ بذيئة، وسارة تعاني من عدم الثقة بالنفس، هي مازالت طفلة رغم أنها في الرابعة عشر من عمرها" تؤازرها هزات الرأس من المحيطين، إضافة إلى العديد من الجمل التي تسمعها عن أبناء صديقاتها، فواحدة تقول: "إن الأطفال اليوم يتملكهم العناد، وانهم سيظلون أطفالاً طول العمر، ابني عنيد لا يعرف كيف يتصرف ومع ذلك لا يسمع الكلام". وتسرع أخرى موافقة: "فعلاً ابني حتى لا يتعاطف مع وجعي. إنه لا يشعر بالآخرين". وتكمل ثالثة: "ابنتي كأنها تقريباً غير موجودة معنا، هي تعيش فقط مع الكمبيوتر والإنترنت والأصدقاء لا نعرف عنها شيئاً ولا تعرف عنا شيئاً". بينما الرابعة لم يختلف عندها الأمر كثيراً، فكانت تقول: "ابني لا يهمه إلا أن يحصل على المال ليشتري ما يريد، هو في قمة الذكاء؛ إذا لم أعطه ذهب لأبيه باكياً يعرف أن قلبه طيب وسيتعاطف معه".
لم تنتهِ الجلسات ولم ينتهِ الحديث، بل يومياً ما يشاركهن ويوافقهن الرأي أمهات أخريات. ولكن اليوم مختلف عن أي يوم مضى؛ فالأم التي شاركتهن كانت مدربة للتربية الإيجابية.
هل تعاني بعض مشاكل هؤلاء الأمهات؟ هل ترغب في معرفة السر الذي يمكن أن يحدث تغييرًا جذريًا في تربية أطفالك؟ هل تبحث عن طريقة فعّالة لتطوير شخصياتهم وبناء علاقات قوية في الأسرة؟ دعنا نستكشف معًا عالمًا سحريًا من التربية، اسمه التربية الإيجابية. بالطبع عزيزي القارئ قد سمعت هذا المصطلح الذي تردد كثيرا في السنوات القليلة الماضية.
علموا أولادكم كيفية رؤية الجوانب المشرقة والفرص
في المواقف الصعبة وساعدوهم على تطوير تفكيرهم الإبداعي
ينادي العديد من التربويين اليوم بالتوجه نحو التربية الإيجابية فهل كان ما تربينا عليه سلبيا؟ بالطبع لا عزيزي القارئ ولكن مع اختلاف معطيات الحياة ومع التطور في العلوم النفسية ودراسات المخ وانعكاساتها في التربية ظهر علم جديد اسمه "التربية الإيجابية". فأبناء اليوم ليسوا هم أبناء الماضي والوسائط المحيطة بهم اليوم تختلف جذرياً عما كانت عليه في الماضي.
في عالمنا المليء بالتحديات والضغوط اليومية، هل يمكن للتربية الإيجابية أن تكون الإجابة التي طالما بحثت عنها؟ دعني آخذك في رحلة ملهمة لاستكشاف أسرار التربية الإيجابية وتطبيقها في حياتك اليومية، حتى تتمكن من بناء جسور من التواصل والتعاطف في علاقتك مع أطفالك.
في هذه السلسة من المقالات، ستكتشف كيف يمكن للتربية الإيجابية أن تحدث فرقًا حقيقيًا في تطوير شخصية أطفالك وتعزيز ثقتهم بأنفسهم. ستتعرف إلى استراتيجيات فعّالة ومبتكرة يمكنك تبنيها في الحياة العملية للتربية الإيجابية، وتجرب أمثلة ملهمة عن كيفية تطبيقها في المواقف اليومية.
الغايات الكبرى
تعد التربية الإيجابية نهجاً تربوياً يهتم بالنظر إلى الغايات الكبرى من التربية؛ فأبناء اليوم يتسمون بالعناد والمكابرة وعدم الطاعة وعدم تحمل المسؤولية، وغيرها من السمات السلبية، وهنا يأتي دور التربية الإيجابية التي توجهنا إلى اتباع استراتيجيات مختلفة تجعلنا نحقق إلى قدر كبير تلك الغايات التي نسعى إليها في أبنائنا، والتي يمكن أن نوضحها في الشكل الآتي:
بالطبع هذه غاياتنا جميعا من أبنائنا، وغيرها الكثير الذي يمكن أن نضيفه إلى تلك القائمة، فجميعنا يحلم بأن يكون أطفاله أسوياء نفسياً، وأن يحققوا قدراً كبيراً من السعادة في الحياة، وأن يكونوا أقرب إلى الله عز وجل.
تسعى التربية الإيجابية إلى توجيه الأمهات والآباء والمعلمين وغيرهم إلى التركيز على تلك الغايات الكبرى طوال الوقت، وبذر البذور التربوية التي تسهم في تحقيق أبنائنا لهذه الغايات، كما تسعى إلى أن يحقق أبناؤنا أقصى قدر ممكن من الازدهار في الحياة بدلاً من أن يعيشوا فقط ويتكيفوا مع الحياة من حولهم من دون تفعيل إمكاناتهم وقدراتهم.. كل هذا في جو من السواء النفسي والصحة النفسية.
تعزيز العواطف الإيجابية
تعتمد التربية الإيجابية بشكل أساس على تعزيز العواطف الإيجابية، وتعزيز العلاقات الصحية، وتعزيز الثقة بالنفس لدى الأطفال.
في إطار التربية الإيجابية، نحن نركز على تعزيز نقاط قوة الطفل وتطويرها. على سبيل المثال؛ إذا كان الطفل مبدعًا في الرسم، فنحن نشجعه على اكتشاف مهاراته ونقدم له الدعم والإشادة بأعماله الفنية. من خلال تعزيز هذه النقاط القوية، يكتسب الطفل الثقة بنفسه، ويشعر بالقدرة على التفوق في المجالات الأخرى أيضًا.
علاوة على ذلك، تعمل التربية الإيجابية على تطوير مهارات التفكير الإيجابي للأطفال. نحن نعلمهم كيفية رؤية الجوانب المشرقة والفرص في المواقف الصعبة، ونساعدهم على تطوير مرونتهم العقلية وتفكيرهم الإبداعي.
تسعى التربية الإيجابية أيضًا إلى بناء علاقات قوية وصحية بين الأهل والأطفال. نحن نشجع التواصل الإيجابي والاحترام المتبادل والتعاطف مع مشاعر الطفل. من خلال بناء هذه العلاقات القوية، يشعر الطفل بالأمان والدعم الذي يحتاج إليه للنمو والازدهار.
ويركز نهج التربية الإيجابية بصورة أساسية على كل من:
تعزيز العواطف الإيجابية: يتضمن ذلك تشجيع الأطفال على التعبير عن مشاعرهم بصراحة، واحترام تلك المشاعر أياً كانت، سواء غضباً أو غيرة أو خوفاً أو غيرها. يجب أن يشعر الطفل أنه مقبول ومحبوب، بغض النظر عن طبيعة مشاعره. على سبيل المثال؛ تشتكي "سلمى" من طريقة ابنها "أنس" في التعبير عن مشاعره، بينما كانت دائماً في أوقات غضبه تتخذ أحد هذه المواقف:
- تنهره وتحثه على الحديث بأدب.
- ترفض سماعه، وتوقفه عن الحديث بمجرد أن يبدأ؛ بحجة أن إدراكه خاطئ.
- ترفض مشاعره أحياناً بخاصة إذا بكى، فتقول "الرجل لا يبكي، يجب أن تكون رجلاً" في حين أن المشاعر ليس لها علاقة بالرجولة والأنوثة.
- تهينه بألفاظ سيئة كي يكف عن الطريقة التي يعبر بها عن غضبه.
لم يشعر أنس يوماً بأن مشاعره محل اعتبار، وأنها مقبولة أياً كانت، وأن هناك مجال للتعبير عنها، وفهمها من قبل من حوله. إن رفضنا لمشاعر أطفالنا أو عدم ترك الفرص للتعبير عنها يقودهم إلى التنفيس في مواقف أخرى وقتما وجدوا فرصة لذلك.
تحثنا التربية الإيجابية على تشجيع الطفل على التعبير عن عواطفه ومشاعره، وقد يتم التعبير عن ذلك بطرق صحية وإيجابية مثل التحدث أو الرسم. فمثلاً إذا شعر الطفل بحزن عميق على قطه الذي مات، يمكننا توجيهه إلى رسم صورة لذلك القط وتعليقها تخليداً لذكراه، فهو من جانب قد نفّس عن مشاعره، ومن جانب آخر وجد طريقة صحية للتعبير عنها. يساعد ذلك أيضاً الطفل على بناء صحة نفسية إيجابية وتعزيز العلاقات الاجتماعية السليمة.
عندما يشعر الطفل بالسعادة أو الحزن أو الغضب، يجب أن نعطيه المساحة والوقت للتعبير عن تلك المشاعر. يمكننا أن نسأله بلطف "كيف تشعر اليوم؟" ونستمع بتركيز واهتمام إلى ردوده. هذا يساعد الطفل على شعوره بالاحترام والقبول، ويعزز علاقتنا به.
تعزيز الثقة بالنفس: تعتبر الثقة بالنفس عنصرًا أساسيًا في نجاح الأطفال. عندما يشعر الطفل بالثقة بنفسه، يكون أكثر استعدادًا لمواجهة التحديات وتحقيق النجاح.
يهدف تعزيز الثقة بالنفس إلى بناء إيمان الطفل بقدراته وقيمته الشخصية. ويساعده على التعامل مع التحديات بثقة وإيجابية، ويمكن أن يؤثر بشكل إيجابي في أدائه العام وتحقيق نجاحاته.
يمكننا تعزيز الثقة بالنفس عن طريق تعزيز نقاط قوة الطفل، وتوجيه الثناء والتشجيع. عندما يقوم الطفل بإنجاز ما مميزًا أو يظهر سلوكًا إيجابيًا، يمكن أن نعبّر عن تقديرنا له بشكل صادق وملموس. على سبيل المثال، إذا كان الطفل يحاول حل مشكلة صعبة وينجح في ذلك، فيمكننا أن نقول له بفخر "لقد عملت بجد، واستخدمت ذكاءك في حل هذه المشكلة، أنت مدهش!".
من المهم أن نقدم الثناء على المهارات التي طورها الطفل . على سبيل المثال؛ إذا أنجز الطفل واجباته في زمن أقل فيجب أن ندعمه بالألفاظ المناسبة.
كانت سلمى تشتكي ضعف قدرات "سارة" ابنتها وضعف ثقتها بنفسها، لم تلحظ سلمى أن أحد أهم الأسباب هو نقدها الدائم لسلوكيات سارة وأعمالها، وعدم الثناء على أي إنجاز تحققه.
لتعزز ثقة ابنك بنفسه حدد معه
أهدافاً واقعية وقابلة للتحقيق
أهداف قابلة للتحقيق
نقطة أخرى مهمة في تعزيز الثقة بالنفس وهي ضرورة أن نساعد أبناءنا على تحقيق النجاح من خلال تحديد أهداف واقعية وقابلة للتحقيق. يجب أن نعلم الأطفال كيفية تحديد أهداف ملائمة لقدراتهم ومستواهم، ونقدم لهم الدعم اللازم لتحقيق تلك الأهداف. على سبيل المثال؛ إذا كان الطفل يحب القراءة فيمكننا أن نحدد معه عدداً معيناً من الكتب في الأسبوع لقراءتها، وعند تحقيق هذا الهدف، نحتفل معه ونعبّر عن سعادتنا بإنجازه.
أيضاً عندما يكتشف الطفل مهارة جديدة أو يبدأ الاهتمام بنشاط معين، يجب أن ندعمه ونوجهه نحو تعلم وتطوير هذه المهارة. على سبيل المثال؛ إذا أظهر الطفل اهتمامًا بالرياضة، فيمكننا تشجيعه على المشاركة في أنشطة رياضية وتقديم الدعم والتشجيع له لتحقيق تقدم وتطور في هذا المجال.
وأخيرًا، يمكننا أن نعزز الثقة بالنفس عن طريق توفير بيئة داعمة ومشجعة. يجب أن نكون حاضرين للأطفال ونستمع إلى أفكارهم ومشاعرهم بصدق واحترام. يجب أن نشجعهم على التعبير عن آرائهم وأفكارهم ونقدّر تفرّدهم وتميّزهم. عندما يشعرون بالدعم والحب والاحترام في بيئتهم، ستزداد ثقتهم بأنفسهم وقدراتهم.
هذه الخطوات المبسطة تسهم في تعزيز ثقة الطفل بنفسه. عندما يشعر الطفل بالثقة بقدراته، سيكون لديه إيمان بأنه قادر على التعامل مع التحديات وتحقيق النجاحات في حياته. يتم بناء الثقة بالنفس عبر الوقت والممارسة المستمرة، ومن المهم أن نكون ملهمين ومشجعين للأطفال لمساعدتهم على بناء ثقة قوية وإيجابية بأنفسهم.
وختاماً فإن التربية الإيجابية توجه قد ظهر ليمكّن أولياء الأمور والمربين من الارتكاز إلى أساليب وأدوات فعالة في تربية أبنائهم في عصر امتلأ بالمتغيرات والأحداث وعوامل الجذب، وغابت فيه القيم الأخلاقية التي لطالما تربّينا عليها في الصغر، وتربى عليها آباؤنا وأجدادنا.
تحدثنا في هذا المقال عن غاياتنا التربوية والمفهوم العام للتربية الإيجابية وبعض عناصرها المتمثلة في تعزيز العواطف الإيجابية، وتعزيز الثقة بالنفس لدى الأبناء، ولنستكمل في العدد المقبل العناصر الأساسية للتربية الإيجابية.