ودوي المدافع يكاد يصم آذانهم، وأزيز الطائرات يروع قلوبهم، ومشاهد القتل والدمار شريط يتجدد أمام أعينهم كل يوم. هذا ما يعيشه أطفالنا في فلسطين، ففي كل يوم يرى الأطفال الفلسطينيون جنود الاحتلال الإسرائيلي يتجولون ويتعاملون بغطرسة واعتداء، يراهم الطفل وهم يهينون أهله، ويذلون شعبه ويهدمون منازله، ويتوسعون في أرضه في وقت يعجز فيه هؤلاء الأهل عن المقاومة. ومن هنا كان قرار الأطفال بالتمرد على الواقع المذل الأليم، وهؤلاء الأطفال أصغر من أن يحملوا السلاح ويتعاملوا بالنار مع جنود السلطة الإسرائيلية المحتلة، لذا اختاروا بدلاً من ذلك سلاحاً بسيطاً للغاية ويتناسب مع أيديهم الصغيرة وأجسامهم النحيلة وهى الحجارة، حيث يقذفون بها جنود الاحتلال ثم يجرون ويتعقبهم جنود الاحتلال بعرباتهم المدرعة وأسلحتهم النارية الخفيفة والمتوسطة، وبينما يفر الأطفال إلى الحوارى والأزقة الضيقة في المدن والقرى، يعجز جنود الاحتلال عن دخولها راكبين. فيترجلون، وهنا يواجههم وابل آخر من الحجارة من الأطفال أنفسهم، أو من موجة أخرى من الأطفال، وهكذا.
يعيش الأطفال الفلسطينيون في الأراضى التى تحتلها إسرائيل ظروفاً بالغة الصعوبة. فهم لا ينالون الحد الأدنى من الرعاية الصحية الأولية، ويعانون من سوء التغذية، وبحكم واقعهم التعليمى المرير نقص الخدمات التربوية الأساسية. كما يعانون من وطأة الشعور بالتمييز نظراً لحرمانهم من تكافؤ الفرص مع أطفال إسرائيل.
إن قتل الأطفال الفلسطينيين، وإصاباتهم بدقة متناهية، في أماكن جسدية تسبب الإعاقة المستديمة لهم، هو قرار سياسي، ينفذه بأداة عسكرية بشرية وتقنية والعنصر البشري المنفذ مؤهل تأهيلاً كاملاً وبكفاءة؛ لقتل الأطفال والصبية العرب.
كابوس اسرائيل
إن أطفال فلسطين هم الكابوس الذي يذكّر الإسرائيليين بأنهم راحلون، وأنهم مجرد لحظة عابرة ستنتهي كما انتهى مستعمرون قبلهم، ولهذا السبب يركز الإسرائيليون على هؤلاء الأطفال، حتى الأجنة في بطون الفلسطينيات لا تسلم من الأذى.
ولا ينفى وجود المعاناة التى يسببها المحتل الإسرائيلى ظهور أشكال عديدة من العنف الذى يوقعه المجتمع الفلسطيني على أطفاله؛ نتيجة دوامة الضغط التى تبدأ من الأب الذي غالباً ما يفقد عمله جراء الحصار الاقتصادي الذي تفرضه إسرائيل، ويعجز عن توفير احتياجات أسرته، فيوقع غضبه على الأم التي تسقطه بدورها على أطفالها.
الأطفال والحرب
الأطفال هم مصدر الثروة في المجتمع على المدى البعيد؛ فهم جيل المستقبل. ويعد الاهتمام بهم ورعايتهم من الضروريات الأساسية لخلق جيل منتج قادر على العطاء، فالحروب تحرم الأطفال من حقهم الطبيعى في العيش بأمان، وتحرمهم من طفولتهم، كما تحرمهم من ذويهـم وبيوتهم وتعرض حياتهم للخطر.
وتؤثر الحروب تأثيراً سلبياً كبيراً في الأطفال، فكثير منهم يتعرضون للاختطاف والاغتصاب والتجنيد العسكري والقتل والتشوية وأشكال عديدة من الاستغلال، ويبقى الحرمان من التعليم والصحة أشد هذه التأثيرات لأنه يسهم في تكوين أجيال تغرق في الجهل والأمية والمرض، وقد تنخرط بعد ذلك في هذه الحروب.
ولقد تسببت الحروب في قتل أعداد غير معروفة من الأطفال أو جرحت أو يتمت، الآلاف قتلوا في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن وليبيا والسودان، ولم ير ملايين آخرون عائلاتهم، ومثال ذلك ما يحدث في الأراضى العربية المحتلة من انتهاكات صارخة تصدر عن المحتل الإسرائيلي الصهيوني الأكثر، وحشية وشراسة من النازية في تعامله مع أطفال الحجارة، وهذا يعد كارثة اجتماعية وإنسانية خطيرة مسكوتاً عنها، حيث يعيش جيل الطفولة في الأرض المحتلة محروماً من أدنى حقوقه الإنسانية، حيث استبدل العدو الصهيونى بسلاسل الأرجوحة سلاسل التعذيب وفرض عليهم أن يفكروا بالسبل والوسائل النضالية الممكنة والمتاحة تحت ظلم الاحتلال؛ بأن تصنع منه الجيل الأكثر صلابة وتمرساً على العمل.
إن الحرب تسبب الصدمات أو على الأقل تزعزع الحياة اليومية، وهي على الأرجح انتهاك لحقوق الأطفال، والأطفال من أكثر الفئات تضرراً بالحروب وذلك من أوجه عديدة؛ فإغلاق المدارس والمستشفيات وإتلاف المحاصيل ينعكس سلباً على النمو السوي للأطفال. ويجري في الوقت الحاضر استخدام الأطفال للقتال في الحروب.
يفتقدون الحنان والأمان لكنهم يرفضون نظرات الشفقة والحب من الآخرين!

شيوخ قبل الأوان
إن الغالبية العظمى من الأطفال العرب يعيشون بلا طفولة حقيقية ويشيخون قبل الأوان، فهم ضحايا الفقر الذي يحرمهم من حقهم في التعليم، ويلقيهم مبكراً إلى أسواق العمل، وحتى الذين تتاح لهم فرص التعليم والترقي يقعون ضحايا النظم التعليمية التي تقتل ما في داخلهم من إبداع، وتزرع فيهم الخوف والريبة من الحياة الدنيا.
إن الطفل من حقه أن يحظى بالحب والحنان والاهتمام والاحترام والإحساس بالأمان والرعاية الصحية والحماية من العنف أو الاستغلال، ومن حقه أن يلعب ويضحك ويتعلم بلا معاناة، ومن حقه التعبير عن رأيه والحصول على معلومات والإسهام في الأنشطة الفنية والثقافية، وإلى الرعاية الحقة من القائمين على المؤسسات التي لها صلة بالطفولة، وإلى الأمن النفسي وعدم الخوف من الجار والصديق. إنهم بحاجة إلى الحماية من الإهمال والنبذ، بحاجة إلى الحماية من كل من يخاف الله فيهم وفي براءتهم، فكل يوم نرى آلاف الأطفال في كل أنحاء العالم يموتون من الجوع والفقر، ونرى أيتاماً ينقصهم الأمن والدفء والحنان، كما أن كثيراً منهم يعانون من ويلات الحروب ويعيشون لاجئين، ومنهم من هو محروم من أبسط حقوقه؛ وهو التعليم والرعاية الصحية.
أطفال الحروب.. والعنف
الحرب عمل عنيف، حيث يتعرض الأطفال لعدة أنواع من العنف، مثل العنف اللفظي والجسدي والنفسي من قبل الأسرة أو المدرسة أو الشارع، إضافة إلى أن الضائقة المالية التي يتعرض لها الوالدان، نتيجة ازدياد نسبة البطالة في المجتمع الفلسطيني، لها أثر كبير في توتر علاقة الآباء بالأبناء وتلبية الاحتياجات النفسية والفسيولوجية لهم؛ ما يؤثر في ردود فعل الوالدين نتيجة إلحاح الطفل على رغباته، لأنه لا يدرك عدم إمكانية تنفيذها، فلا يجد الوالدان بداً من تفريغ الضغوط النفسية في الطرف الأضعف، فيضربون أبناءهم أو يعنفونهم بحدة؛ ما يؤثر سلباً في الترابط الأسري، ويدفع الطفل إلى الهرب خارج البيت طوال الوقت والابتعاد عن دراسته وتلبية حاجاته الفسيولوجية، الأمر الذى يهدد بنشأة جيل ضعيف البنية نفسياً وجسدياً.
إن الخوف من الغد أو من المستقبل، وعدم الإحساس بالأمان، وعدم قدرة رب العائلة "الأم أو الأب" على فرض حمايته، هي أحاسيس يتميز بها الأطفال الذين يعيشون أجواء الحروب؛ فهم يدركون أن هؤلاء الكبار لا حول لهم ولا قوة، وأن قدراتهم أقل بكثير مما كانوا يعتقدون، وبخاصة عندما يلمحون نظرات الذعر ودموع الخوف فى عيون الآباء والأمهات. وتولد هذه الأحاسيس لدى الأطفال خوفاً دائماً من الغد، وعدم القدرة على الحلم والتخطيط للمستقبل، لأن كل شيء قد يضيع في لحظة. والمثير أن هؤلاء الأطفال يرفضون بعد فترة نظرات الشفقة والحب من الآخرين، بالرغم من أنهم يفتقدون الحب والأمان والحنان، ويميلون إلى التشاؤم والضيق واليأس، إضافة إلى أن هؤلاء الأطفال يصبحون أكثر توتراً وعصبية، ولا يتحملون أي حديث، كذلك إصابتهم بحالات من الفزع والهلع والصراخ بمجرد سماع صوت الرشاشات أو مشاهدة الدماء، ويجب أن يخضع هؤلاء الأطفال لبرامج إعادة تأهيل اجتماعي، وعلى القائمين على هذا البرنامج أن يتحلوا بالصبر الشديد، وألا يتعجلوا النتائج، فأصوات المدافع والانفجارات في ذاكرة هؤلاء الأطفال قد تغطي على صوت النصائح التى يتلقونها.
إن مرحلة الطفولة التي يحياها الطفل مرة واحدة في حياته لن يستطيع استعادتها إذا طلب إعادتها؛ فالإنسان يخرج طفلاً ليربى وليداً، ليصير شاباً يافعاً ورجلاً كبيراً، ولكن الرجل الكبير لا يعود رضيعاً فطيماً ولا طفلاً صغيراً، ولهذا يجب أن يحيا الطفل طفولته بكل امتلاء، يمارس فيها مهنة اللعب في إطار من التوجيه السليم والإرشاد الصحيح، فما خُلق الطفل طفلا إلا ليلعب، وما وُجد اللعب إلا للطفل؛ فالطفل الذى لا يلعب لعباً جميلاً يستريح فيه وإليه قد خسر طفولته إساءةً وإهمالاً وظلماً، وسُلب مباهج الطفولة كرهاً وقهراً.
وعلاوة على ذلك؛ فإن الظلم والقهر والإكراه، الذي يتعرض له الطفل الفلسطيني تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلى لبلاده وحرمانه من بيئة اللعب يميت قلبه وروحه، ويعطل ذكاءاته المتعددة، وينغص عليه حياة العيش في هذه الطفولة التى تكتسي بؤساً وحرماناً ويأساً.