أفضل تقنيات التعليم لا تفيد طفلاً
ليس لديه من يحبه بصدق
التوحُّد.. أسبابه وأعراضه
التوحد، هو حالة مرضية أساسها رفض التعامل مع الآخرين. واصطلاحاً، هو إعاقة متعلقة بالنمو تظهر عند الطفل عادةً خلال السنوات الثلاث الأولى من عمره، نتيجة حدوث اضطراب في الجهاز العصبي يؤثر في وظائف المخ ونموه الطبيعي في مجال الحياة الاجتماعية ومهارات التواصل. وتعود بدايات اكتشافه بوصفه مرضاً، إلى مقالة كتبها الطبيب النفسي ليو كانير Léo kanner سنة 1943 وصف فيها حالة أحد عشر مريضاً تابع حالتهم على مدار سنوات في عيادته، ولاحظ عليهم أعراضاً مختلفة عن الأمراض النفسية المتعارف عليها، وقد استعمل مصطلح Autism للتعبير عنها في محاولة لكشف الغموض عنه.
يمتاز التوحد بصعوبة تشخيصه في المراحل المبكرة من حياة الطفل، لكون أعراضه وحدّته تختلفان من شخص إلى آخر، وذلك يؤدي إلى صعوبة التدخل لاحقاً. أما أسبابه فليست هناك بخصوصها نتيجة قطعية، لكونها غير معروفة، على رغم أن العوامل الوراثية تلعب دوراً مهما في ذلك، إضافةً إلى العوامل الكيميائية والعضوية، على رغم أن علماء النفس يُرجعون الإصابة به إلى عوامل أخرى، كسوء معاملة الوالدين للطفل، بخاصة الأم، والحرمان الشديد للطفل في محيطه الأسري والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية للأسرة؛ ما يؤدي إلى الانطواء على النفس، ونرى أن هذا الرأي مستبعد، فالغالب أن الأسباب بيولوجية أكثر منها نفسية.
النشاط الزائد والحركة الأقل
من المعتاد من أهم أعراض التوحُّد
تظهر مجموعة من الأعراض على الطفل المتوحد ابتداءً من سن 24 إلى 36 شهراً، منها على مستوى السلوك، إما النشاط الزائد أو حركية أقل من المعتاد، مع وجود سلوكات وحركات غير سوية عدوانية ومؤذية، سواء تجاه الآخرين أو الذات، كضرب الحائط بالرأس، إضافة إلى الانطواء وعدم الاهتمام بالآخرين. فالطفل المتوحد أقل تفاعلاً مع الآخرين، سواء من حيث تكوين الصداقات أو اللعب، وكره الغرباء والأماكن المزدحمة بالناس، وبالتالي صعوبة في التواصل مع الآخرين والارتباط بالعالم الخارجي.
أما على مستوى الذكاء، فحسب الإحصاءات فإن ربع الأطفال المتوحدين نجد معدلات ذكائهم عادية، بينما البقية ينخفض مستوى ذكائهم، كما يعانون من مشكلات حسية، كالاستجابة غير المعتادة للأحاسيس؛ مثلا أن يكون الطفل المتوحد حساساً أكثر من اللازم للمس، أو أن يكون أقل حساسيةً من المعتاد للألم. ويجب تأكيد أن أعراض التوحد تختلف من شخص إلى آخر، وكذلك حدته.
نحو بناء علاقة جديدة بين المدرسة والطفل المتوحدإن الاهتمام المتزايد بالأطفال التوحُّديين وبحقوقهم، ومحاولة رفع جزء من العبء عن عائلاتهم، تجعلنا نقف عند حق أساسي وهو الحق في التعليم، ليس فقط بهدف تعليمهم وتنمية قدراتهم، ولكن أيضا لإتاحة الفرصة لهم لتحقيق المشاركة الفاعلة - قدر الإمكان - في الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لمجتمعاتهم، وذلك يقتضي تقديم تعليم فعال، يساير خصوصية هاته الفئة من المجتمع، وذلك يمكن أن يتحقق عبر ثلاثة مرتكزات:
وسط أسري متقبل للمرض ومتفاعل معه:
الأسرة أساس المجتمع، وبالتالي فنجاح تعليم الطفل المتوحد يقتضي انخراطاً تاماً لأسرته في هاته العملية؛ باعتبارها عنصراً مساعداً وفاعلاً في هاته العملية، عبر تذليلها للصعوبات التي تعترض تعليم طفلها، لأن أفضل تقنيات التعليم لن تكون مجدية أو ذات أثر ما لم تطبق من قبل شخص (الأم أو الأب) يحب الطفل المعني به بصدق، وتكون لديه اهتمامات صادقة وحقيقية نابعة من القلب. ويتوقف النجاح على معرفة الطفل وفهم طبيعة إعاقته، والإحاطة بالأشياء التي يحبها والتي لا يحبها، وأن تتوافر لديه القدرة على تحسين ما ينوي الطفل أن يفعله قبل أن يبدأ تنفيذ ذلك. فواجب الأسرة تجاه طفلهم المتوحد، يتجلى في الفهم الصحيح لطبيعة المرض عبر التثقيف وقراءة كل ما يتعلق به، واكتشاف الأسرة مبكراً للمرض يساعد على التقليل من الآثار الجانبية التي تصاحبه، فمعرفته تساعد الأسرة على تحديد الأشياء التي يحبها طفلهم والتي تضايقه لتجنبها، مع التركيز على تعزيز الثقة بالذات والاعتماد على النفس، من خلال تقبُّل الطفل المتوحد واحترام قدراته بالتركيز على عناصر قوته وتميزه عن الآخرين. كما يجب على أفراد الأسرة بناء علاقة وجدانية معه عن طريق التقرب إليه بكلمات رقيقة، لتعديل سلوكه العدواني، فلكل طفل من الأطفال التوحديين مفتاح خاص في شخصيته، وهو جواز السفر للدخول إلى عالمه، وعلى الآباء اكتشافه، لتسهيل تعليم ابنهم بشكل أفضل وفي تنسيق تام مع المدرسة.
وسط مدرسي خاص بمدرسين للتربية الخاصة:
اختلفت الاتجاهات حول نوعية المدرسة التي يجب أن يلجها الطفل المتوحد: هل هي مدرسة عادية، أم مدرسة معدة للتربية الخاصة؟ فاتجاه الدمج، يقوم على وضع الطفل المتوحد في مدرسة عادية وعدم عزله في مدرسة مخصصة للتربية الخاصة، لكون التدريس يتم فيها وفقا لمستوى الإعاقة (بسيطة أم شديدة)، إلا أننا نرى أن دمج الطفل المتوحد في مدرسة عادية، قد تكون له انعكاسات سلبية عليه؛ ما يفرض ضرورة الاعتماد على التربية الخاصة بمقررات وبرامج خاصة. فالأطفال التوحديون بحاجة إلى الالتحاق بمدرسة خاصة بهم منذ سن الخامسة حتى المراهقة؛ فقد أوضحت التجارب أنهم يتحسنون بصورة أفضل في البيئة المركبة؛ حيث يتلقون الاهتمام الفردي، ثم بعد ذلك يُدمجون في مجموعات مكونة من ثلاثة أو أربعة أطفال أو أكثر كلما أحرزوا تقدما. فتوفير هاته البيئة المركبة بخبرة تفاعلية اجتماعية، يساعد الطفل المتوحد على العلاج، فالنزهات المدرسية والحفلات وأعياد الميلاد والتجمعات اليومية لجميع أفراد المدرسة، تمنح الطفل إيقاعاً مدرسياً محبباً، ونمطاً حياتياً مريحاً ومثيراً في الوقت نفسه، وذلك يفرض وجود نوعية خاصة من المعلمين معدّين بشكل أفضل للقيام بتربية الأطفال التوحديين، فيُفترض ضمنياً في مدرس التربية الخاصة اختلاف كفاياته ومهاراته وسماته عن مدرس التربية العامة، مع وجود قاسم مشترك بينهما؛ وهو أن كليهما معلم. على رغم أن هناك من يرى أن معلم التربية الخاصة، هو معلم عادي لديه خبرة ناجحة في التدريس، ويتم تزويده ببعض المهارات والكفايات الخاصة، لكي يكون معلما للتربية الخاصة.
التفكير باستخدام الصور بدلاً
من اللغة والكلمات أفضل للطفل المتوحد
طرائق تعليمية خاصة:
إن اعتماد مدرسة خاصة لتدريس الأطفال التوحديين بمدرسين مؤهلين لتعليم هاته الفئة من المجتمع، يفرض كذلك اعتماد طرائق بيذاغوجية (مجموع طرق التدريس) وتربوية خاصة، منها استخدام التفكير المرئي، فالطفل المتوحد يُستحسن أن يفكر باستخدام الصور بدلاً من اللغة والكلمات. فالأنشطة المصورة من الطرائق الحديثة لتربية الأطفال خصوصاً التوحديين، حيث تبدو لهم الأفكار كشريط فيديو يراه في مخيلته، فالصورة هي لغته الأولى والكلمات لغته الثانية. أما التواصل معهم فيُستحسن القيام به وهم في حالة اللعب، لتحسين الكلام والحديث لديهم.
الأطفال التوحديون بحاجة إلى مدرسة خاصة بهم منذ سن الخامسة حتى المراهقة
كما يجب استثمار الأشياء المحببة لديهم والتي يرفضون التخلي عنها، من أجل تنمية مكتسباتهم الدراسية و تشجيع مواهبهم وتطويرها، كالرسم واستخدام الكمبيوتر بهدف بناء الثقة بالذات، كما يجب تجنب استخدام كلمات وأوامر وتعليمات طويلة، ويُستحب كتابتها إذا كان الشخص يعرف القراءة. هاته الطرائق البيذاغوجية هي جزء من سيل من الطرائق، التي يجب اعتمادها من أجل تعليم فعال للأطفال التوحديين، والتي يصعب اعتمادها في مدرسة عادية وبمدرس عادي. وذلك يفرض على الدول الاهتمام بأطفالها التوحديين، كما تهتم سياستها بأطفالها الطبيعيين، وضرورة تعبئة المجتمع بجمعياته وقواه الفاعلة لدعم تعليم وتمدرس هاته الفئة من المجتمع، حتى تسهم إلى جانب الفئات الأخرى في التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لبلدانها.
نافلة القول:
إن الارتقاء بتعليم أطفال التوحد، يتطلب تضافر جهود الدولة وجمعيات المجتمع المدني والوسط المدرسي، من مؤسسات ما قبل التعليم المدرسي، والمدرسي، وأسر الأطفال التوحديين، لتحقيق تعليم فعال لهاته الفئة بما يراعي مبدأ الإنصاف.