"مطلوب مدربون مؤهلون يتحلون بالصبر والتعاطف
والحب لهم لتنمية القدرة الحركية لدى ذوي الإعاقة البصرية"
وعلى الرغم من امتلاك المكفوفين أياديَ حساسةً قابلةً للتعلم وقادرةً على التعبير ذاته عما يقوله الآخرون، بل إنها من شدة رقتها تقرأ بها نقاط البرايل البيضاء على الصفحة الملساء، وهي الطريقة التي يستخدمها المكفوفون وضعاف البصر في الدراسة والقراءة، إلا أنهم لا يستخدمونها في التعبير؛ لأنهم ببساطة لم يروا هذه التعبيرات التي نتناقلها عن طريق النظر بلا وعي، فقليلةٌ هي الحركات التي تلقاها أغلب الناس بالتلقين المتعمد. ولكي ننمي هذه القدرات الحركية عند المكفوفين يجب أن يتم تدريبهم على تشغيلها من مصادر ثقة، وأن يتم ذلك بواسطة مدربين مؤهلين يتحلون بالصبر والجلد والتعاطف والحب لهؤلاء الأحباء، الذين ابتُلوا بهذا الفقد من دون أن يكون لهم يد أو رغبة في ذلك، علماً بأن هذه التدريبات الحركية وما يترتب عليها من مكتسبات تعود بالفائدة على من يتعاملون معهم وليس عليهم لأنهم لا يرونها في الأساس.
تعددت التجارب
حول تلك المواجهة مع تحدي الحركة تعددت التجارب بغية الوصول ببعض المكفوفين - نتيجة إجادة التعبير الحركي - إلى درجة ألا تكتشف إعاقتهم إلا عن قرب وبالخطاب المباشر، وذلك بمراجعة سجلات اختراع الإنسان للحركات لكي نوقظ تلك المهارة عند المكفوفين نشرح لهم مالم يشاهدوه عن طبيعة الحركة بشكل نظري أول الأمر وجذور تلك الحركة إن وُجدت، أو نجتهد لكي نبرر كيف وُجدت حركة ما وعلاقتها بما تعبر عنه، ثم نتحدث عن مدى أهمية الحركة في التعامل مع غيرهم من الناس، الذين لا يفهمون ماهية ما بهم من علاقة، ولن يتسع لهم الوقت للإلمام بأسباب فقْد تلك التعبيرات، ومادام الشخص قرر التمثيل فإنه بذلك إنما قرر ألا يمثل نفسه فقط، وإنما هو ممثل لعموم الناس، فلا أحد يختار مشاهديه. وطالما اعتليت منصة المسرح فلن تختار من يشاهدك؛ إذ تتباين قدرات المشاهدين.
علينا عندما نقرر أن نقتحم ذلك المجهول الحركي عند الكفيف وضعاف البصر، أولاداً كانوا أو بنات، أن نفعل ذلك بعد أن نؤكد لهم كل التأكيد أنه من ضروات العمل المسرحي. ولا يغيب عن المدربين أن هذه الخطوة لا بد من أن يسبقها أن يحب الكفيف اللعبة التمثيلية، ويتذوق متعتها، ويعرف ما لها من فائدة وأهمية. ولا تظن أن ذلك صعب أو عسير، وإنما هو سهل ويسير؛ ففي كل التجارب التي اتصل فيها المسرح مع المكفوفين كنا نجد إقبالاً منقطع النظير، وحتى أولئك الذين هابوا المسرح وامتنعوا أول الأمر سرعان ما جاءوا عشاقا متيمين؛ ففي النشاط المسرحي سحر وجاذبية جعلته باقياً ومستمراً منذ ما قبل الميلاد بمئات السنين، وما راهن عليه أحد إلا ربح الرهان، وسيبقي المسرح ما بقيت البشرية على قيد الحياة؛ فهو لا يتطلب أكثر من وجود إنسان يقدّم عرضاً ما لقرينه الإنسان في أي زمان أو مكان. ولذلك قُدِّم المسرح في الحقول والسجون والشوارع والمقاهي والمدارس والأندية والمصانع.. إلخ.
"يمتلك بعض ذوي الإعاقة البصرية
عقولاً نيرة تستحق الرعاية.. طه حسين نموذجاً"
عقبات
عندما يقرّر الكفيف أن يمارس المسرح فإنه يحتاج إلى تحضير واستعداد لتذليل العقبات واحدةً بعد الأخرى، وأولى هذه الصعوبات هي كيف يحفظ دوره التمثيليّ، ليتقمص "الشخصية" المنوط به تقديمها وهو الذي لم يرَ قط وجوه الآخرين، ولا يعرف كيف يعبّرون؟ وكيف سيتحرك فوق منصة المسرح من دون أن يختفي بالكواليس التي لا يراها؟ وكيف يمنع نفسه من السقوط من فوق المنصة؟ وكيف يتجاوب مع جمهورٍ لا يراه؟ كيف يشعر بوجود هذا الجمهور؟ وهل تكفي حاسة السمع وحاسة اللمس للتعويض عن البعد في توصيل أحداث العرض المسرحي؟.. سوف نناقش ذلك من خلال تجارب مرصودة على أرض الواقع نوثّقها، مثل تجربة المخرج المسرحي "ميشيل منير" الذي اكتشف فجأة، كما اكتشفنا، أن المسرح يهمل ذوي الهمم أصدقاءنا المعاقين بصرياً، وكان ذلك بسبب مطالبة فتاة كفيفة تدعي ديانا وصفي التي رفض انضمامها أول الأمر إلى إحدى فرق (قصور الثقافة المصرية) لأنها ليست عضواً بالفريق، ولأنه في الحقيقة لم يعرف كيف يتعامل معها ولم يجد دوراً يناسبها بالمسرحية، ولكنه سرعان ما تراجع عن هذا الموقف بعد تفكير واستعداد، وقرر أن يعوّضها، فأنشأ ورشة "بصيص" ضمن أنشطة "ساقية الصاوي" بحي الزمالك بالقاهرة؛ وهي المؤسسة الثقافية الأكثر تفاعلاً مع مستجدات الثقافة والفنون بصورةٍ أسرع من الجهات الرسمية، التي تحتاج إلى مداولات وموافقات قد تستغرق أعواماً حتى تكتمل وقد تتلاشى في الطريق ولا تكتمل، ولأجل أن يتعلم المخرج ميشيل كيف يعامل ضعاف البصر حصل على دورات في كيفية التعامل مع المكفوفين قبل أن يدخل هذا العالم الساحر، وبعدما خاض التجربة أعلن ندمه على ما ضاع من عمره قبل أن ينتبه إلى هؤلاء الظرفاء المبدعين. وقدم ميشيل وغيره إجابة عن سؤال جديد هو: كيف نوفر للكفيف سبيل قراءة النص؟ وكانت الإجابة عن طريق كتابة النص بطريقة برايل. وفي مدارس المكفوفين التي شرفت بالإشراف على أنشطتها المسرحية عدة سنوات رأيت الاختصاصي المسرحي القائم يالعمل معهم يجمع فريقه المسرحي، وفي الاجتماع الأول بعدما يلخص لهم النص ويشرح طبيعة العرض، يملي عليهم النص ليكتب كل طالب دوره مسبوقا بالمفاتيح بطريقة برايل، التي تؤمّن لهم سهولة القراءة. وكان ذلك يصلح معهم؛ لأن النصوص المدرسية تكون قصيرة بحيث لا تستغرق عملية إملائها بهذه الطريقة أكثر من جلسة تدريب واحدة لا تتعدى ساعة ونصف الساعة، وبكتابة النص بطريقة برايل يستطيع الممثل الكفيف قراءة دوره ومذاكرته جيداً قبل الوقوف على المسرح استعداداً لمواجهة التحدي الأكبر؛ وهو تحدي الحركة الذي يسبقه تحديد الاتجاهات وتكوين فكرة جيدة عن أبعاد المنصة المسرحية. وكان حل مشكلة الحركة عند ميشيل منير، مؤسس ورشة "بصيص"، تقسيم الخشبة إلى مربعات يسهل أن يحفظها الممثل، ويتمكن بعد ذلك من التنقل بينها بيسر وسهولة. ولكني أضيف أن التقسيم من دون وضع نقاط بارزة تحدد تلك المربعات على المنصة المسرحية يقلل من دقة الحركة، بينما يؤمن البروز للكفيف معرفة المواقع، لذلك لا بد من وجود وسائل ملموسة وبارزة فوق الخشبة تكون بمثابة رموز أو أدلة أو علامات تفصل بين الحدود على خشبه المسرح وتؤمّن الممثلين، بحيث يستطيعون الحركة مطمئنين من دون أدنى احتمال للتعرض لخطر السقوط. وفي ذلك يضيف مبارك بن جمعة المعمري، من سلطنة عمان: "أن الفنان الكفيف مثله مثل المبصر في التدريب على الخشبة، ولكنه يستعيض عن البصر بالحواس الأخرى كالملمس، كما يحفظ أبعاد المسرح بطريقة عدّ الخطوات التي يتدرب عليها جيداً بحيث يستطيع الحركة كالمبصر تماماً، والبعض يندهش من قدرتنا على التحرك بين أثاث المسرح بخفة شديدة وكأننا نرى فعلاً ما حولنا. النص المسرحي أيضاً نحفظه عن ظهر قلب سماعياً، بحيث يعرف كل منا دوره ويتقنه تماماً؛ ليغدو الحوار مقنعاً إلى حد كبير"
وفي تحدي الحركة المسرحية Mise-en-scene أيضاً ابتكر المخرج محمد فؤاد، صاحب أبرز التجارب المسرحية المصرية الآنية في هذا المجال، طريقةً جديدةً استخدمها في تجارب متقدمة؛ مزج فيها بين ضعاف البصر والآخرين، بأن يصدر المبصر صوت "طرقعة أصابع" من المكان الذي ينبغي على زميله ضعيف النظر أن يذهب إليه، ليتحرك الكفيف مطمئناً من دون تردد أو خوف إلى المكان بطريقة مسرحية مرتبة وهو في أمان تام، لأنه أيقن بأن زميله يراه بوضوح ومنتبه إلى خطواته.
"في ورشة "بصيص"، تقسّم خشبة المسرح إلى مربعات
يسهل أن يحفظها الممثل ليتنقل بينها بسهولة"
تجربة ثرية
من الجدير بالذكر هنا أيضاً أن مبارك بن جمعة المعمري هو أول مخرج كفيف له إنجاز مسرحي عربي وتجربة ثرية تستحق التوقف والتأمل، وله تصريحات تقودنا إلى معرفة ما يشعر به وما يفكر فيه أو يقلقه هو وأقرانه. يقول معرباً عن شعوره بالفخر والرضا: "أستطيع فعلاً أن أشعر بنظرات الإعجاب في عيون المشاهدين، وهذا حق بالطبع طالما اصطحبت أعضاء الفرقة من المكفوفين جميعهم إلى صالة المسرح، حيث يجلس الجمهور، وجعلتهم يكوّنون فكرة عن المقاعد الخالية التي يمارسون التدريبات في حضورها مرات ومرات، ولذلك سيستشعرون أنفاس الناس عندما تعمر بهم المقاعد، ويكون شعورهم كما لو أنهم يرون بعضهم.
ضعاف البصر أقدم ذوي الهمم علاقةً بالمسرح؛ إذ قدمت شخصية الكفيف "ترزياس" في معالجة أسطورة أوديبوس ضمن التراجيديات الإغريقية منذ ما قبل الميلاد، وهو عرّاف كفيف يتصف بالحكمة، اضطر أمام الضغط إلى التلميح للملك "أوديبوس" بخطئه الجسيم واللعنة التي حلت به ودمرت المملكة، فكان جزاؤه لوماً ومعايرةً بالعمى، وكانت نتيجة ذلك وجزاء أوديبوس أن فقأ بيديه عينيه بعد بضع ساعات، وأصبح هو أيضاً أعمى وتخلى عن الملك بإراته الحرة، مقررا أن يعاقب نفسه بأن يهيم على وجهه كفيفاً بصحراء "كولون" ليواجه العذاب والمصير المجهول، لعله يكفّر بذلك عن أخطائه الفادحة ويجنب أولاده ميراثاً ملعوناً. وهذه الموعظة الرائعة التي تحذر من السخرية من كفيف تضمّنها مشهد في مسرحية عُرضت قبل الميلاد من إنسان فقد بصره بغير إرادته، وإنما سلبه إياه الخالق الذي يقدر على تكرار ذلك مع أي شخص في أي وقت.
عقول نيّرة جديرة بالرعاية
يمتلك بعض المكفوفين عقولاً نيرة تستحق الرعاية. ويحمل راية مفكريهم العظماء "هوميروس" أقدم شعراء التاريخ وصاحب الإلياذة والأوديسا التي اشتملت على الأساطير التي كانت ديانات الشعوب قبل نزول الديانات والشرائع السماوية، والتي اعتمد عليها في إنشاء المسرح، ومنهم عميد الأدب العربي "طه حسين" الذي تولى وزارة المعارف المصرية ورسّخ مفهوم أن التعليم كالماء والهواء لا غنى عنه لكل البشر، وهذا ما جعله محور أنظار العالم، وتسبّب في كونه أول عربي رُشح لجائزة نوبل للآداب، وخسرته نوبل بسبب التحيّز والتعصّب، ولكن هذا الترشيح فتح أبواب الجائزة أمام نجيب محفوظ وغيره من مبدعي العرب، الذين لم يكن في الحسبان أن تشملهم نوبل. ومن الطريف أن طه حسين كان أول من ترجم المسرحيات الإغريقية إلى العربية، وكانت باكورة ترجماته "أوديبوس في كولون" وكان هو نفسه طه حسين الكفيف أحد رواد التدريس في المعهد المصري للفنون التمثيلية؛ وهو أقدم مؤسسة لتعليم الفنون في المنطقة العربية، والتي على حد علمي لم يلتحق بها أو يتخرج فيها ممثلة أو ممثل كفيف حتى وقتنا هذا، والسبب في ذلك أن التمثيل ليس بالصوت فقط، وإنما يحتاج في مدارسه الحديثة إلى الحركة، ربما أكثر من الصوت، ولذلك ندلي بدلونا في هذا الأمر، ونسارع بفتح هذا الملف؛ لعله ينبه إلى نقل المعرفة الحركية بالوسائل الممكنة للأطفال المكفوفين عبر الألعاب التمثيلية في مراحل الطفولة المبكرة، التي ازداد الاهتمام بها مؤخراً؛ لأن التعليم في الصغر كالنقش في الحجر.