حين نترك الأطفال يمارسون "الشخبطة" فيبدعون
من وحي رسوم الأحفاد
لكوني أدرك أن رسوم الأطفال هي أولى محاولاتهم التشكيلية التي يمكن أن تفصح عن إبداعاتهم، وهي من المهارات والفنون الجميلة التي يجب أن نشجع أطفالنا على ممارستها والاستمرار فيها؛ كان حرصي على متابعة جهود أحفادي التي يبذلونها في هذا الاتجاه بدءًا من إمساكهم بالقلم و"الشخبطة" به، وصولاً إلى مرحلة إدراك المدرك ومروراً بمرحلة تحضير المدرك الشكلي. وأعتقد أن تركي مساحة من الحرية لهم كي يمارسوا هواياتهم في العبث بالألوان والتشكيل بها أينما شاءوا وكيفما رغبوا من دون نهر ولا زجر هو ما ثبّت أقدامهم كي يمضوا قُدماً في محاولاتهم، وساعد على صقل نضج خطوطهم وشخبطاتهم يوماً بعد يوم؛ حتى نَمت قدراتهم وثبتت خطواتهم في هذا المجال.
كلمات مفتاحية:
#رسوم_الأطفال #موهبة_الأطفال #العرائس #رسوم_اللوحات #مهارات_الأطفال_في_الرسم #تجسيد_الشخصيات_في_الرسوم
المقال كاملاً
ومما يتوارد على ذهني من ذكريات تلك الأوقات، السعادة التي كانت تنطق بها عيون حفيدتي "نور"، وهي ابنة العامين ونصف العام في أثناء إحدى زياراتها لي وانفرادها بي من دون أمها، حيث وجدتني وقد تركت لها الألوان المائية التي صنعتها بخامات آمنة مُتاحة بالبيت والفُرش بعدة أحجام على الطاولة، والتي حرصت على تغطيتها بمفرش بلاستيكي، ونثرت فوقها الأوراق وعيونها تسألني في صمت: هل مسموح لي بأن ألعب وأعبث بتلك الألوان فوق الأوراق المنثورة من دون أن أتعرض للعقاب؟ وتأتيها ابتسامتي وإيماءة رأسي لتؤكد لها أنه ممكن، فتتقدم نحوها، ثم أجدها وقد تحررت من ربطة شعرها، وكأنها تريد تحرير كل شيء خلال تلك المساحة من الحرية التي مُنحت إياها. وبعد تأكدها من أنني لن أُفسد عليها لحظات سعادتها مهما ينتج عن هذا السماح من عواقب، ورغم كونها بدأت رحلة التمتع بالإمكانات التي بحوزتها؛ فإن تمتعها لم يُلهِها عن التأكد من ثباتي الانفعالي باستراق النظر إلى وجهي بين الفينة والأخرى، للتأكد من أن ما تقوم به لم يغير شيئاً من ملامحه.
والحقيقة من خلال متابعتي لرسوم أحفادي اكتشفت أن بعضها تسبق سماته المرحلة الخاصة بالفئة العمرية التي ينتمون إليها؛ ففي سن الخمس سنوات (تحضير المدرك الشكلي) لفت انتباهي أن حفيدتي "كارما" قد تمكنت من رسم وجوه الشخصيات التي اختارتها على شكل دائرة كاملة الاستدارة وليس شبه دائرة كما هو متعارف عليه. بينما تطابق رسم اليدين والرجلين مع معالم رسوم المرحلة؛ حيث جاءا على شكل خطوط، أما رسم "لارا" للشخصية حين كان عمرها 9 سنوات (مرحلة إدراك المدرك الشكلي) فقد استطاعت أيضاً من خلاله تخطي مرحلتها للمرحلة اللاحقة (التعبير الواقعي) سواء في مقاييس جسم الشخصية التي قامت برسمها (باستثناء حجم الرأس بالنسبة إلى الجسم) أو في تفاصيل ملابسها. أما حفيدتي "هنَّا"، فالحقيقة أن رسمها للشخصيات وهي في عمر الخمس سنوات جاء مدهشاً ومميزاً بالنسبة إلى مرحلتها العمرية. ونظراً إلى كثرة خطوط الشخصيات التي قامت برسمها؛ كان من الصعب تجسيدها إلى عرائس، ولكنها تمكنت من رسم مواقف تعبّر عن سلوكيات جعلتني أتحمس لتحويلها إلى لوحات.
أما حفيدي "عمار" فقد برع في تأليف القصص مع رسم اللوحات المعبرة عنها بشكل كاريكاتوري وهو في سن العاشرة؛ متجاوزاً كل المعايير، إلا أنه للأسف توقف قبل ثلاث سنوات عن الاستمرار في إبداعاته الفنية بسبب انشغاله واستنفاد وقته بين التمارين الرياضية والدراسة والدروس الخصوصية (التي لم يُرحم منها حتى في الإجازات والعطلات على مدار العام). أما "نور الدين" فقد تمكن وهو في عمر ثماني سنوات من تصوير الوضع في ظل كوفيد 19 مفصحاً عما يتمتع به من خيال خصب. كما أدهشني تطور مهارة الرسم عن طريق النقل عن أصل عند كلٍّ من حفيداتي الأربع هنا ولارا وكارما ونور بشكل أعجز أنا عن القيام به بتلك البراعة في التفاصيل، مع وضوح التزامهن بدقة التلوين داخل المساحة المحددة؛ ما يعني تطور الذاكرة البصرية لديهن وتمتعهن بمستوى عالٍ من التآزر البصري الحركي.
حين تتجسّد الموهبة
رغبةً مني في تخليد رسوماتهم المميزة وإدخال البهجة إلى نفوسهم، وتعزيز ما قاموا به لصقل مواهبهم ودعم ثقتهم بأنفسهم؛ قمت بتجسيد بعضها وتحويلها إلى عرائس سعدوا بها كثيراً، حيث أصبح بإمكانهم حملها واحتضانها والتحرك بها في كل مكان، أو وضعها في مكان بارز بغرفهم. كما تمكنت من تحويل بعضها إلى لوحات يمكن تعليقها على الحائط، وكانت بداياتي مع رسمتي التوأمين لارا وكارما، حيث حولتهما إلى عروستين صغيرتين لهما الشكل والحجم نفسه.
وحينما رسمت صغيرتي كارما شخصيتين تمثل إحداهما طفلة، والأخرى طفلاً، قمت بتجسيد الشخصيتين كما رسمتْهما تماماً والالتزام بكل تفاصيلهما والتي تطابقت مع معايير رسوم أطفال الفئة العمرية التي تمثلها؛ فالرأس كبير والأطراف عبارة عن خطوط، ثم بعد مضيّ عدة أشهر طلبت أن تعدل في أصل الرسمة وتحدد الأطراف بشكل أكثر واقعية، ولكني طلبت منها تجسيد ما ارتسم في مخيلتها على الورق، ثم قمت بتحويله إلى لوحتين يمكنها تعليقهما في غرفتها إلى جوار الرسمة الأولى.
أما تجسيد شخصية "الملكة" التي قامت لارا برسمها؛ فقد صادفت في أثناء التنفيذ بعض التحديات، فالشعر طويل وكثيف جداً، ولن يكون الشكل لائقاً إذا استخدمت قطعة قماش سوداء، وسلمت أمري لله واشتريت لفة صوف سميك أسود، وقمت بتشكيل الشعر به. وحينما أبديت الملاحظة للارا، قالت لي: "كان من الممكن أن تعملي الرأس من الخلف بقماش لونه أسود، فهذا كان سيخفف من معاناتك وتكلفتك كثيراً يا تيتا".
أدهشتني وأقنعتني فكرتها الذكية التي سأضعها في الاعتبار في المرة المقبلة بإذن الله. أما التحدي الثاني الذي واجهني فهو كيفية تجسيد حذاء الملكة، ولحسن حظي أنني كنت أتناول بضع حبات من الفول السوداني، وراودتني فكرة أن أستخدم قشره في عمل الحذاء، وأن أصنع قطعة صغيرة من عجينة السيراميك لعمل الكعبين ثم ألونهما، وقد نجحت الفكرة بشكل مدهش. أما حبات العقد فلم تكن أيضاً متوافرة لدي، إلا أنني تغلبت على تلك المشكلة بتلوين أحد الأشرطة الخاصة بتزيين الفساتين حتى بدت وكأنها العقد، وقلت لصغيرتي ابحثي حولك دائماً عن البدائل وفكري خارج الصندوق، فقد تنتفعين بشيء لم يكن يخطر ببالك أنه يمكن استخدامه لهذا الغرض. كذلك من الأشياء التي صادفتني ولم أتمكن من تصويرها في العروسة، تلك الابتسامة التي تفترش وجه الفتاة في رسم لارا، حيث ذكرتني بابتسامة الموناليزا. حاولت تقليدها بكل الطرق إلا أنني لم أفلح، حتى إنني قمت بطباعة كل تفاصيلها على ورق شفاف ونقله كما هو، وأيضاً لم أفلح.