المسرح وعلم النفس أية علاقة؟
لتقديم إجابات بصدد العلاقة بين المسرح وعلم النفس، لا بد لنا من استحضار خصوصيات وأسس المجالين معاً حتى تتضح طبيعة العلاقة التي تجمع المجال بالآخر. إن فن المسرح هو مجال للإبداع والخلق والكتابة الركحية؛ ففيه تثار طبيعة الحالات النفسية والوجدانية والسلوكية لدى الشخوص المسرحية، فتؤدى فوق خشبة الركح عن طريق التمثُّل والتخييل والتجسيد، باستحضار تام لطبيعة الحالة النفسية والشعورية التي تتسم بها الشخصية الدرامية. ومن جهة أخرى، يعد علم النفس بوصفه مجالاً وعلماً نظرياً وتطبيقياً ينصب على دراسة حالات الإنسان السيكولوجية والعقلية والوجدانية، إذ يقدم للفرد (الإنسان) خدمة طبية/ علاجية تُطَهِّر النفس من الشوائب والاضطرابات السلوكية والنفسية. ولمجال علم النفس ميادين وفروع نظرية وتطبيقية تختص بحالات مرضية مختلفة عن الحالات المرضية الأخرى. كما لفن المسرح أيضاً مجالات وعناصر فنية وتقنية وجمالية تسهم جميعاً في التأثيث للمشهد الركحي/المسرحي، حتى تُحقِّق الفرجة غاياتها الفنية والفكرية والدرامية.
ومما تقدم، تنجلي طبيعة العلاقة التي تجمع المسرح بمجال علم النفس؛ فكل مجال يقدم خدمات للمجال الآخر، إذ كي تكون الطبيعة النفسية والسلوكية للشخصية المسرحية صائبة وحقيقية، لا بد لكاتب المسرحية من أن يكون مطلعاً وملماً بمجال علم النفس، حتى تغدو كتابته للشخوص الدرامية واقعية ومستلهمة من كنف المجتمع. وفي كتاب "المسرح في مجال الأدب وعلم النفس" لكاتبته: الدكتورة "هند قواص"، تتحدث عن هذه العلاقة الوطيدة التي نحن بصددها، فتقول: "وبما أن التمثيل يمثل أعظم الحالات النفسية، سواء كان حباً أم بغضاً أم قتلاً، فكلها تفاعلات يجب دراستها وإعطاء الحالة الصحية لها وإلباسها الحلة الحقيقة. لأن لكل حالة نفسية حالة معينة من نوع يختلف عن الآخر، فحب الأخ ليس مثل حب الوالد، وحب الولد ليس مثل حب الزوجة..." إلى غير ذلك من أنواع وأشكال الحب وخصوصيتها السيكولوجية والوجدانية. لذلك أشرنا إلى ضرورة الإلمام لدى المبدع (الكاتب والدراماتورج) بمجال علم النفس ونظرياته ومجالاته وفروعه.
إن علاقة المسرح بعلم النفس، لا تنحصر فقط فيما قدمناه سلفاً، بل طبيعة العلاقة وأسسها النظرية والتطبيقية هي متعددة، لذلك لا يسعنا الخوض فيها كاملةً ضمن هذه المقالة؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر، نبسط ما يقدمه علم النفس للمسرح والمجالات الفنية الأخرى - في إطار العلاقة التي تربطهما - ضمن الترسيمة الآتية:
الترسيمة رقم 1: توضح الشبكة العلائقية التي تربط علم النفس وفن المسرح
السيكودراما التربوية تعالج الاضطرابات
النفسية والعقلية والسلوكية
في علاقة المسرح بالمدرسة
قبل الخوض في مقاربة جدلية العلاقة بين المسرح والمدرسة، نستحضر مجال علم النفس التربوي بوصفه فرعاً من فروع علم النفس العام، الذي ينصب على حل المشكلات التربوية وتأطيرها ضمن سياقات الدراسات السيكولوجية، بغية البحث عن حلول ناجعة للمشاكل التي تشهدها العملية التعليمية التعلُّمية وما يتصل بها. وقد أسهم مجال علم النفس التربوي في دراسة الأساليب والطرق التربوية الناجعة، بغيةَ تطوير مناهج التربية والتعليم وتحسين جودة الإكساب المعرفي لدى المتعلمين، وتنمية قدراتهم التواصلية والعقلية والمعرفية. وأكدت معظم الدراسات البحثية ذات الصلة بالبحث السيكولوجي، وبخاصة المرتبطة منها بتطوير شخصية الطفل/ التلميذ داخل المدرسة، ضرورة اعتماد فن المسرح بوصفه مجالاً إبداعياً يسهم في تكوين الشخصية، وترقية مجموعة من المهارات والكفايات لدى الأطفال المتعلمين.
ومن هذا المنطلق، تتضح طبيعة العلاقة بين المسرح والمدرسة؛ فالمسرح داخل الفصول الدراسية يسهم في تحسين جودة التربية والتعليم، عن طريق الخدمات التربوية والتعليمية والعلاجية التي توفرها تطبيقاته الفنية والتقنية والإجرائية. ومجموعة هي الدراسات العلمية التي أقرت بفاعلية المسرح في التربية والتعليم، وبخاصة الأبحاث التي أولت اهتمت بمسرحة المناهج التربوية والتعليمية، هذه الأخيرة التي تعد عملية تربوية ترتكز على تحويل المحتويات الدراسية إلى مسرحيات تعليمية، تُمَرَّر من خلالها الأفكار والمعارف التعليمية والتربوية ذات الصلة بالمادة الدراسية. وتتجلى أهمية هذه المقاربة التربوية في الخروج من ذلك التعليم النمطي الذي يتأسس على التلقين المباشر للمواد التعليمية، بمقاربة تربوية بديلة عن المقاربة المبتذلة، وهي الحوار والمشاركة الفعَّالة للمتعلمين في العملية التعليمية التعلُّمية في إطار العمل بالمجموعة أو العمل بشكل فردي، من خلال النشاط التعليمي المسرحي الذي يهدف إلى بناء المعارف وامتلاكها، وتقوية القدرات والمهارات الشخصية والذاتية للمتمدرسين.
الكاتب المسرحي يجب أن يكون ملماً بعلم النفس
حتى تكون شخوصه واقعية ومستلهمة من المجتمع
ومما تقدم، يمكننا القول بشأن العلاقة التي تربط المسرح بالمدرسة: إنها علاقة تأسيسية/ وظيفية، يعمل من خلالها فن المسرح بتطبيقاته وإجراءاته الفنية والدرامية على بلورة استراتيجية تعليمية في قالب مسرحي، تُراعَى فيها القدرات الفكرية والعقلية للمتعلمين، كما تسهم مخرجاتها التعليمية في ترسيخ المعارف والمحتويات التربوية لدى الأطفال المتمدرسين. لذا؛ فعلاقة المسرح بالمدرسة، هي علاقة تعليمية وتربوية ترتبط بالهدف العام المتوخى من العملية التربوية والتعليمية بشكل عام، وتجويد الوسائل والطرائق التعليمية التي تعد أساس التنفيذ البرامجي للمواد والمقررات الدراسية.
المسرح والعلاج: السيكودراما التربوية أنموذجاً
أثبتت معظم الدراسات والأبحاث السيكولوجية المرتبطة بإشكالية العلاقة بين المسرح والعلاج، أن لفن المسرح والدراما دوراً مهماً في العلاج النفسي والسلوكي والمعرفي. والسيكودراما التربوية هي عملية تطبيقية وإجرائية للأهداف العامة المتوخاة من وظائف المسرح العلاجية. إنها أسلوب علاجي، ابتكره العالِم والباحث الروماني/ الأمريكي جاكوب ليفي مورينو، الذي أنشأ مسرحاً لعلاج الأطفال في فيينا، عمل من خلاله على تطبيق الأسس والأساليب والتقنيات المنهجية المرتبطة بالسيكودراما، بوصفها أسلوباً علاجياً يعتمد على الطاقات الإبداعية للمجموعة (المستهدفين من الحصص العلاجية) بغية الوصول إلى الهدف العام المتوخى؛ وهو (العلاج).
تعد السيكودراما أسلوباً من أساليب العلاج النفسي، يسعى إلى تحقيق مجموعة من الأهداف العلاجية عند الفرد (المتعلم) الذي يعاني من اضطرابات على المستويين النفسي والسلوكي، ومن أبرزها:
- الكشف عن مشكلات التلاميذ ومعرفة غاياتهم وحاجاتهم ورغابتهم؛
- تحسيس المتمدرس (المضطرب سلوكياً) بتجليات سلوكياته غير الملائمة، وتعويضها بسلوكيات حسنة وطيبة تلقى قبولاً لدى المجتمع.
- إفساح المجال للتلاميذ (المضطربين سلوكياً) للتعبير الانفعالي والوجداني عن التوترات النفسية والعاطفية والاجتماعية التي يعانون منها، وتشكل عائقاً وتحدياً أمام اندماجهم السوي داخل منظومة المجتمع.
تقنيات مناجاة النفس، والمرآة، وقلب الدور، وتقديم الذات،
والبديل تطهّر التلميذ "الممثل" من الداخل
تبقى كل هاته الأهداف والغايات التي تطمح إليها تطبيقات أسلوب السيكودراما التربوية، بمثابة أهداف أشرنا إليها فقط على سبيل المثال لا الحصر، لأن ما تحققه السيكودراما من غايات علاجية لا يمكن إيرادها في هذه العجالة، بل الإشارة إليها هي فقط من باب التعريف بأهميتها وفاعليتها في العلاج السلوكي لأولئك الذين يعانون من اضطرابات نفسية ووجدانية وسلوكية. تكشف لنا السيكودراما التربوية الحقائق النفسية والاضطرابات السلوكية لدى الأطفال المتمدرسين (المستفيدين من الحصة العلاجية) عن طريق التقنيات المسرحية والدرامية أهمها: (تقنية مناجاة النفس، والمرآة، وقلب الدور، وتقديم الذات، وتقنية البديل...) وغيرها من التقنيات. عن طريق هذه التقنيات والإجراءات التطبيقية ذات الطابع المسرحي، نكتشف الاضطرابات النفسية والسلوكية لدى التلاميذ الذين يعبِّرون عما بداخلهم، فيغدو المُعالِج أمام حالات مَرضية تستدعي البحث عن الحلول العلاجية لها، وفقاً لبرنامج سيكودرامي ينطلق من الماضي الذي شكَّل اضطراباً سلوكياً لدى (المريض)، إلى الحاضر الذي يستحضر فيه كل التجارب غير المرغوب فيها للمرة الثانية، في جو مسرحي علاجي يعايش فيه البطل (المريض) كل الأحداث الماضية بغرض تحقيق التطهير الانفعالي، وبالتالي الوصول إلى الغرض العلاجي المرجوّ من العملية السيكودرامية. وترتكز هذه العملية كما حدَّدها مورينو على عدة عناصر نوردها ضمن الترسيمة الآتية:
الترسيمة رقم 2: عناصر السيكودراما كما حدَّدها جاكوب ليفي مورينو
إن البحث في علاقة المسرح بعلم النفس عموماً، والسيكودراما وفاعليتها في العلاج النفسي والسلوكي بخاصة، من الموضوعات الإشكالية التي تتطلب بحثاً معمقاً يحيط بحدوده النظرية والمعرفية والتطبيقية، وذلك لما يكتسيه من تشعّب على مستوى البنية التركيبية للإشكالية في ارتباطها بمجالات وحقول معرفية متعددة. ويعد البرنامج السيكودرامي من الطرق والأساليب التربوية والعلاجية المعتمدة في تقويم السلوك وإرشاد التلاميذ إلى الفهم والاستيعاب، وإحداث تغييرات جذرية في شخصيتهم، ومعالجة الاضطرابات النفسية والسلوكية كما سبق أن أشرنا آنفاً؛ وبالتالي إسهامه في إعادة بناء الشخصية وتقويم بنيتها النفسية والاجتماعية حتى تغدو شخصية فاعلة/ وديناميكية داخل المجتمع، في ارتباط تام بمنظومة القيم الوطنية والأخلاقية والاجتماعية والثقافية. والمدرسة العربية اليوم هي في حاجة ماسة إلى اعتماد برامج تربوية وعلاجية كهذه داخل المؤسسات التعليمية والتربوية، لضرورات تفرضها السياقات والتحولات المجتمعية التي أصبحت تؤثر سلباً في منظومة القيم. وباعتماد فن المسرح بخاصة، والفنون الإبداعية عامةً، في صيغها العلاجية والتربوية والتعليمية؛ تغدو القدرة على التغيير محققة بفضل ما تسمح به فاعلية الفنون بشكل عام في بلوغ الغايات التربوية والتعليمية المنشودة. ويبقى الطرح الإشكالي للموضوع، منفتحاً على مقاربات بحثية وتحليلية أخرى؛ تُعَمِّق البحث، وتُمحِّص في قضاياه وحدوده المعرفية والتطبيقية.